سحق الوجود الإنساني للبشر وتحويلهم إلى مجرد أرقام وأشياء تتلاشى قيمتها بالاستعمال والاستغلال المتعدد، هي الحقيقة السائدة في العالم اليوم بشكل عام. ولكنها حقيقة تأخذ طابعاً فاقعاً في عالمنا العربي، الذي يُعاني من معضلات اقتصادية تجعل الحياة الاجتماعية عبارة عن سلسلة من الأزمات النفسية، تجعل الشخص مُتعثراً، حائراً، ولا يستطيع أن يُحدد قيمته بين الأشياء والأرقام المنتشرة في محيطه.
إن السحق المتكرر للإنسانية بسياسات السيطرة والرقابة والاضطهاد يورث الشعور بالقهر، ويولد شحنات وطاقة سلبية في المحيط الاجتماعي هدفها تشتيت الانتباه عن القبح والتشوه الذي يتسم به هذا الواقع، ولكن الإشكالية المثيرة هنا هي: كيف يمكن لهاته الشحنات السالبة أن تتحقق ويتم التعبير عنها في هذا العالم؟
إن الصعوبة في التعبير والتحقق التي تُعاني منها الطاقة السلبية لدى الشعب المقهورة، ناتجة عن ندرة في الوسائل الكفيلة والمتاحة لهذا التحقق، فالإمكانية للحصول على وسيط بين نفسية الشعب وواقعه لتحقيق ذلك النفي، تبقى إمكانية شبه مستحيلة، ما دام أن العوائق التي يضعها أمامها الواقع القمعي أقوى من أن تدع أي نفي يتحقق في الحياة.
لا يمكن لحالة أن تظل كما هي حتى ولو اعتقد العقل أنها أبدية الثبات، فالتغيُّر هو الثابت الوحيدة في الطبيعة، وهذه حقيقة كونية لا يمكن التغاضي عنها، لذلك لا يمكن أن يظل الشعب المقهور بدون تعبير عن حالته، وتبقى وسيلة التعبير هي الإشكال القائم في طريق هذا الشعب. ومن السذاجة أن نعتقد أن التعبير لا قيمة له في نفي الوضع القائم على الاضطهاد، بل إن التعبير هو الشرط الثاني بعد الوعي بالوضع القائم، لبداية أي مشروع يسعى لإنهاء الاضطهاد ونفيه.
يأخذ التعبير طابعه الصادق دائماً من العفوية، التي تُعبِّر عن النفسية الناتجة عن اضطهاد يقاسيه الشعب سواء في حياته الاجتماعية أو الاقتصادية، وكلما كانت الوضع النفسي متأزماً كان التعبير العفوي أكثر تطرفاً في محاكمته للواقع.
إذاً ما دامت إمكانية التعبير قائمة، فإن تحققه سيحتاج إلى وسيلة من أجل ذلك، ولأن الوسائل التعبيرية الكلاسيكية قد تم الاستحواذ عليها من طرف طبقة ثقافية متعالية أو من طرف طبقة اقتصادية متعجرفة، أو أطبقت الدولة عليها قبضتها، فإن الشعب بلغته البسيطة يبحث عن الوسائل الأقرب إليه للتعبير عن نفسه.
وسائل التعبير الأكثر اقتراناً بالشعب المقهور تنقسم لثلاثة أنواع عفوية، تستخدم فيها اللغة العامية على الأرجح، والتي يفهمها كل أفراد هذا الشعب خاصة شبابه الباحث عن حل للأزمة القائمة أمام مستقبلهم، وإن كان الشيوخ قد وصلوا إلى عهد تَقبلوا فيه الحالة كما هي.
توجد إذاً ثلاثة خطابات "مشاغبة" تسعى إلى إزعاج الوضع القائم، وهي خطابات تتخذ طابعاً شعبياً أكثر حدة وصرامة في التعبير، ولا تجد أي عائق أمام تحققها، لكونها مغامرة بالأساس.
فن الراب
يتموضع فن الرَّاب على عرش الخطابات المشاغبة حالياً، وتتمحور هويته كفن ناقد حول الكلمات الدالة والمباشرة التي تتحدث عن الواقع المزري للطبقة المُضطَهدة، وهذا خطاب جدّ قوي يأخذ قوته من شخصية الفنان الذي يستعمله كتعبير عن نفسيته المُضطرِبة والتي تشمل بدورها نفسية قطاعات من المجتمع.
فن الراب هو فن غير نظامي وغير مدرسي، فهو لا يحتاج إلى تعلم نسق الموسيقى الكلاسيكي أو إلى التدرب على تطوير صوت الحنجرة لتطرب الآذان. إنه فن عفوي يعتمد على الكلمات الناقدة في بناء نسقه، ولا يهم أبداً كيف يُؤدى هذا الفن، وإنما المهم هو أن يكون إلقاء الكلمات حماسياً وانفعالياً وذا انسجام مع الموسيقى.
من هذه الخصوصية الحرة والبسيطة، التي يتميز بها فن الراب الذي يُمكن تسجيل أغانيه بأية وسيلة تسجيلية متوفرة، عكس باقي الفنون التي تحتاج إلى الآلات الموسيقية وإلى التسجيل المحترف، فإن فن الراب يلقى انتشاراً بين صفوف الطبقة الشعبية الفقيرة مما يجعله الناطق بلسان حالها. لم يكن الرّاب ذا بُعد تجاري، بل كان عفوياً تطوعياً، كالفروسية في العهد الأرستقراطي، فلم تكن غايته ربحية، وإنما كان يسعى لنيل الاعتراف بشجاعته، وأي فنان في فن الراب يجد شخصيته في المجازفة التي يتَّبعها في مواجهة وضع قمعي يُهدد أي تعبير بالإفناء.
إن هذه الخصوصية التي يتميز بها الراب، جعل منه فناً مزعجاً للأنظمة القمعية، مما جعل تلك الأخيرة تبحث عن طريقة لتذويب هذا الفن في الواقع الحاضر للسير حسب قوانييه الخاصة والزجرية، وأهم طريقة لفعل ذلك هو تحويل غاية الرَّاب من الغاية الأرستقراطية ذات الطابع الفروسي إلى الغاية البرجوازية ذات الطابع الربحي. ونتيجة لهذا تَكَوَّن لدينا راب تجاري. إلا أن هذا لم يقضِ على الراب كفن ناقد وإن تقلصت قوته "التدميرية" للوضع القائم. وكنتيجة لهذا، انقسم الراب على نفسه، فظهر "راب البّلاطُو" المتأقلم إعلامياً مع الوضع القائم، و"راب الشارع" المُعبِّر عن الحالة المتأزم التي يعيشها شعب مُضطهد.
الألتراس
بعد الرَّاب، تأتي روابط الألتراس كتجمع وخطاب شعبي يسعى لتوضيح حالة يعيشها شعب، فحتى ولو كان مشروعها هو تشجيع فريقها أثناء مباراة كرة القدم، إلا أنها تمزج الكلمات الناقدة للوضع القائم في أشعارها الحماسية داخل مدرجات الملعب. وهي عكس الراب لا تأخذ قوتها من شخصية الفنان أو المنضوين تحتها، وإنما تكتسب عنفوانها من كمية أفرادها وانسجامهم فيما بينهم وتطرفهم في حب فريقهم. ومع ذلك فإنها شبيهة بالراب، لأنها لا تسعى لغاية ربحية وإنما غايتها تكمن في دورها والتزامها بتشجيع فريقها، وهذا ما يجعلها تتعالى عن الواقع المُعاش بعيداً عن أي اضطرار اقتصادي أو اجتماعي. فالتزامها الغريب يجعل أي شخص منضوٍ تحتها يُغامر بحياته من أجل السير على هدى المشروع المرسوم لها، وعلى هذا الأساس تُزْعِج الوضع الأنظمة القمعية.
وبالطبع، فإن هذا الخطاب لن يكون بعيداً عن ضربات القمع، الرامي إلى إضعافه أو القضاء عليه، إلا أن الألتراس أقوى بقوتها الكمية التي تتأسس على الجانب الاقتصادي أثناء شراء أفرادها للتذاكر. فلا يمكن بحال أن يتم منع أفراد بالمئات يشترون التذاكر ويُساهمون في تدعيم الاقتصاد الرياضي. ولأن الألتراس ليست جمعية قانونية فهي لا تعطي أهمية لأية ضوابط نظامية غير التي تحكم كيانها من الداخل وهذا ما يجعلها أكثر إزعاجاً خاصة أنها تستقطب شباباً ساخطاً على الوضع وله وعي بالأزمات الاجتماعية، ولأنه ملتزم بفكرة الألتراس فإنه يتبنى مشروعها ويندمج في خطابها. وحتى ولو حاول الوضع القائم إلغاء هذا الاندماج فإنه لن يستطيع القضاء على فكرة الألتراس.
فن الغرافيتي
أما آخر وسيلة للتعبير في موضوعنا فهو فن "الغرافيتي"، الذي يتألق بصرخاته الإبداعية على جدران الشوارع. يعتمد "الغرافيتي" على الرسم كتعبير عن نفسية شخص مجهول، وضع إبداعه بالليل على جدار دون أن يلمحه أحد، ثم هرب تاركاً أثره المُعبِّر عن حالة طبقة أو مجموعة مقهورة.
فنان الغرافيتي ليس له هدف ربحي، عادة، وإنما يسعى لغاية نيل الإعجاب على رسمته أو كتابته التي وضع عليها إمضاءه الغامض. فهو أثناء الليل مُبدع مُضطرب ومُغامر يحاول خلق تعبير مزعج للوضع القائم دون أن يعرفه أحد، بينما في النهار يكون جزءاً من المشاهدين مُستمعاً لآرائهم حول إبداعه دون أن يُشير لملكيته للإبداع، كما يطَّلع على ردة فعل النظام القمعي عن الرسمة، فتكون النشوة حين يقوم النظام أو السلطة بمسح الرسمة أو إخفائها أو تشويهها.
وفي الأخير، نخرج بنتيجة وهي أن الوسائل المذكورة هنا هي خطابات شعبية لها دور في التعبير عن وضع قمعي دون مقابل، وهذا ما يجعلها تتعالى على العالم التجاري الربحي الأناني، متسامية عنه إلى عالم تعبيري يحمل في جوفه قوة نافية للواقع المتأزم. وهذا ما يجعلها أكثر إزعاجاً لكل مستفيد من الحالة الراهنة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.