مع متابعتي الدقيقة لكثير من الأعمال الدرامية التركية على مدار عشر سنوات، وعملي المباشر مع بعض نجوم عدد من الأعمال الدرامية التي اشتُهرت عربياً وعالمياً في السنوات الأخيرة كـ"قيامة أرطغرل" و"كوت العمارة"، لم أكن قد اقتربت قط من مسلسل "الحفرة" ذي الشهرة الواسعة هو الآخر محلياً وعربياً والذي بدأ عرضه في أكتوبر/تشرين الأول 2017.
كانت ضجة المسلسل من حولي في دائرة المعارف والمهتمين بالفن تقترب إليَّ رويداً رويداً، لكن مع صخب لا يخطئه حاضر في شوارع إسطنبول وجلساتها .
كثير ممن هم حولي زيَّنوا أصابعهم بخواتم عليها شعار الحفرة، وآخرون بشعارات على هواتفهم المحمولة .
ابتعدت أنا كثيراً عن هذا الضجيج وعن الحديث عن العمل وتقييمه أو حتى متابعة قصته، بل وضعته في خانة مُهملة بقائمة أولوياتي؛ ظناً مني أنه مجرد مسلسل مافيا يُكرر حكاية من حكايات الدراما التركية المفعمة بالمافيا وحكايات جانبية مع المافيا .
بعد سنوات من انطلاق الحلقة الأولى في 2017، حَططتُ أنا على مَهلٍ لأُتابع مقطعاً مصادفةً للشخصية الأبرز في العمل بموسميه الأول والثاني، للفنان "أرجان أوزدال" والمعروف بـ"أدريس بابا"، كان الرجل يحكي عن العائلة وأنها كل شيء.
عاد بي إلى ما قبل التغريبة وعائلتي الكبيرة بل الكبيرة جداً، عاد بي إلى عمي الأكبر وجلساته ليفصل في منازعات قريتنا الصغيرة، وسط حضورنا جميعاً أبناء العائلة، لنفصل معه في حال تطورت الخلافات.
كان أرجان أوزدال يغزل هذه الحالة من جديد فيَّ بكلمة "العائلة هي كل شيء"، وتجسيد نوعي بهذه الحالة التي كان يرويها بإيمان وإحساس مكتمل عن أهمية العائلة.
في الحلقة الأولى اقتنصني قنصاً الفنانُ "رضا كوجا أوغلو" المعروف بـ"عليشو"، حالة الشخصية الاستثنائية التي جسَّدها رضا كوجا أوغلو تسربت فيَّ كالأوكسجين في الجسد.
قليل من هم مثل رضا قادرون على التعايش فنياً، أكرر مرة أخرى، التعايش لا الأداء التمثيلي مع حالة شخص استثنائي بقدرات خاصة يعاني توحُّداً وذكاء فائقاً وقدرات عسكرية عالية، ويراه الجميع من حوله "مجنوناً".. فهنيئاً لهذا الجنون وهذا التوحد الذي أداه رضا كوجا أوغلو.
أداء رضا على مستوى الحركات الجسدية لم يكن اعتيادياً، تفاصيل الملابس الموحدة تقريباً على مدار 4 مواسم، متلازمة "الشوربة، لا للشيكولاتة، كازوز، أنا عليشو مع كل استفهام"، وغيرها من متلازمات الشخصية عمَّقت الارتباط العاطفي والإنساني والفني للمُشاهد بهذه الشخصية.
حتي إنه في احتفالية أبطال العمل بصدور 100 حلقة من العمل أثنى الجميع على أداء رضا كوجا أوغلو.
بل لم يترك أغلب الأبطال ثغرة درامية من الممكن أن تُملأ بتقليد أداء شخصية "عليشو" على سبيل التهكم أو المزاح، إلا عبَّأوها درامياً باستخلاصات وتقليد لأداء هذه الشخصية.
برأيي لم يعطِ رضا أداءً تمثيلياً في هذا العمل بقدر معايشته والتصاقه بالشخصية، لينقل لنا صورة واقعية خاماً لحالة فريدة من نوعها فنياً.
اليوم يُسدل ستار إمبراطورية "الحفرة" درامياً في الحلقة الأخيرة بعد أربعة مواسم متتالية، نجح فيها السيناريست جوكهان هورزوم وداملا سريم بحكاية غير عادية ورسم خطوط درامية قوية ليس فقط على مستوى الأبطال؛ بل ما وجب ذكره هو احترافية صنع الشخصيات الثانوية الاستثنائية التي تركت بصمة كشخصية "تمساح، شينو، مرتضى".
صناعة المتلازمة حرفة فنية لا يدركها كثير من كُتاب الدراما، فرغم أن هذه الشخصيات ثانوية فإنَّ حضورها بمتلازمات غريبة ونوعية وموسيقى مصاحِبة خاصة لهم، جعل حضورهم طاغياً ومتراكماً في العقل المتابِع بحرص للعمل.
الفنان "نجيب ميملي" في دور الأخ الأكبر "جومالي" حقق انتشاراً واسعاً هو الآخر بحرفية المتلازمات الدرامية له بالعمل، بداية من طريقة استخدامه المسدس وهو يوجِّهه بطريقة جانبية عكس كثير من آليات التعامل مع الأسلحة، نهاية بأدائه الحركيّ والحواري الذي صنع اختراقاً واضحاً في توزيع البطولة بينه وبين الأبطال الآخرين بشكل لا يُخطئه متابع.
حصد العمل على موقع imdb تقييم 7.4، وهو تقييم مناسب قياساً إلى طول مدة الحلقات وغيرها من عوامل التقييم المختلفة.
نجح "الحفرة" في زرع قيمة العائلة بشكل نوعي، أصلها الأب "أدريس" الفنان أرجان أوزدال، وهو طبيب مهتم وكاتب وأديب له ثقله في الأعمال الأدبية التركية، وكان ذا أداء مبهر حقيقي تماماً بعيداً عن الاصطناع.
لم يترك مسلسل "الحفرة" مجرد شعار يتلقفه ويحمله الجميع على المسابح والخواتم وغيرها من الإكسسوارات الآن؛ بل ترك المسلسل أثراً بيئياً رُوِّج له على مستوى عالٍ من أبطال العمل داخل السياق الدرامي وخارج السياق ألا وهو "غابة الحفرة"، حيث تبنَّى أبطال العمل شعار "فنلجعل الطبيعة تتنفس" في حملة كبرى، وتبنوا زرع 50 ألف شجرة؛ للمساعدة على الحد من التأثيرات الضارة بالبيئة، وخُصص رقم ساخن لاستقبال الرسائل للمساهمة في الزراعة بـ"غابة الحفرة".
أُفول نجم إمبراطورية "الحفرة"، شخصيات وحكاية، اليوم، يصيب كثيرين باكتئاب، أتصدر هؤلاء الكثيرين .. لكن لا يسعنا إلا أن نقدم احترامنا لأبطال العمل والسيناريست، وشكراً خاصاً لـ"أدريس بابا" و"عليشو".
وليكرر الجميع: "Bu hayatın heyecanı meycanı yok".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.