في فوهة البركان اللبناني وأزقته الضيقة وحساباته الشخصية القائمة على "النكايات" بين المتخاصمين دون رحمة بسكان اليابسة اللبنانية، يعيش رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري أياماً عصيبة لم تمر يوماً عليه حتى في ذروة الانقلاب "العوني" عليه نهاية عام 2010، يعيش سعد الحريري مرحلة عجيبة وهجينة، لا هو قادر على تأليف حكومته بشروطه ولا خطوة الانتقال للمعارضة تبدو سهلة عليه كما كانت على والده الذي أجاد لعب دور المعارض وحقق منها حضوره في السلطة لسنوات، يدرك الحريري الابن في عام 2021 أن الدول الراعية للمعارضات العربية لم تعد جاهزة لتبني خيارات تصعيدية في لبنان وتحديداً أن الجميع يجلس مع الجميع بين فيينا وبغداد ودمشق وموسكو والدوحة.
فيما حلفاء الحريري التقليديون لم يعودوا حتى في صف أصدقائه، رهانات سمير جعجع أوسع فهو يعيش حلم تحوله "المسيحي الأول" بعد انهيار منظومة عون-باسيل ووليد جنبلاط ليس مستعداً للإبحار بعيداً لأجل أحد في ظل الانكماش السياسي والاقتصادي وتحديات بيئته التي ذاقت المرار في سوريا، وحده نبيه بري ومعه حزب الله لا يزالان يقدمان لسعد الحريري الغطاء المحلي تحت عنوان واضح: سد ثغرة أي فتنة سنية-شيعية في البلد بكون الحريري لا يزال الأقوى سنياً والأكثر اجتذاباً لعاطفة سنة لبنان المسحوقين المقهورين.
بالتوازي فإن حراكاً دولياً وإقليمياً يعيد الملف اللبناني من الأدراج بعد أن أكلها الغبار لسنوات وهذا الحراك يبدأ في الكونغرس ويمتد لأروقة الإليزيه الضائعة بعد أن حولها المسؤولون اللبنانيون لمجموعة فاشلين في إيجاد الحلول، ولا ينتهي هذا الحراك في لقاءات خالد الحميدان وإسماعيل قآني في بغداد والتي عقدت في بغداد منذ أيام ليست ببعيدة.
الارتطام في أجندة المجتمع الدولي
يتابع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التقارير المحلية والأجنبية حول واقع التضخم المالي وانعكاساته على اللبنانيين، يتابع المعنيون في أروقة المؤسسات الدولية التقارير الأسبوعية الصادرة عن مرصد الأزمة في الجامعة الأمريكية في بيروت ويبدي الجميع خوفه من تطور المأساة اللبنانية وتسارعها الذي لم يتوقف ليوم واحد من سنتين تقريباً، هذا الاهتمام معطوف عليه زيارة وفد رفيع للبنك الدولي، وهذا الوفد الذي سيلتقي المسؤولين اللبنانيين، سيترأسه هذه المرة مسؤول مجلس المديرين حسن ميرزاز، ما يعني أنّ المؤسسة المالية العالمية الأهم أوفدت إلى لبنان هذه المرة وفداً رفيعاً في مهمة واضحة وهي توجيه رسائل عالية السقف للمسؤولين عن الانهيار، وأن هذا الوفد نسق زيارته حكماً مع واشنطن وباريس.
الفرنسيون يتحضرون.. عقد جديد بالتنسيق مع بايدن
يبدي الرئيس ماكرون اهتماماً مستمراً بلبنان، رغم أن الخيبات والطعنات التي تلقتها مبادرته في لبنان ليست بقليلة إلا أن الرجل يعول في نهاية المطاف على أن يعود للإمساك بالملف وتحقيق أهداف به مهما بلغ حجمها قبيل استحقاقات فرنسا المفصلية، كان ماكرون يأمل أن يحقق مجموعة أهداف مرة واحدة، الأولى دولياً مع الأتراك في المتوسط لكنه يبدو غير قادر في ظل تبدل الأداء التركي وذهابه بخيارات تفاوضية مع اليونان وقبرص والحوارات التي فتحها أردوغان مع الناتو والتي قد تنتج مصالحة مع الأوروبيين تعني أن خيار هزيمة الأتراك يبدو حلماً غير محقق.
لذا فإن الملف اللبناني رغم تعقيداته يبدو لا يزال أمل ماكرون الوحيد في الساحة الإقليمية، والمتابع لسير العلاقة بين بايدن وماكرون بات يدرك أن ساكن البيت الأبيض أعطى تفويضاً لنظيره الفرنسي في إدارة الملف اللبناني وإنجاح مبادرته، على عكس ما قرر سلفه ترامب ممارسته مع الفرنسيين وتحديداً في ملفات الشرق الأوسط، ويبدو اليوم جلياً أن الفرنسيين والأمريكيين يتشاركون في هدف رئيسي وهو أن لا تكون الممارسات المشتركة دافعاً لانهيار لبنان وسبباً به لأن وصول لبنان لهذه المرحلة يعني أنه سيصعب إصلاحه وفق الخطوط الموضوعة سابقاً.
ووفقاً للعارفين بأروقة الملف اللبناني في باريس فإن الفرنسيين كانوا قد أبلغوا الأمريكيين عن نيتهم وفق سياسة تجديد المبادرة، القيام بمؤتمر حوار لبناني يقر عقداً اجتماعياً جديداً ووثيقة تأسيسية للبنان الجديد، وتتضمن إنتاج سلطة جديدة، إصلاحية، تحافظ على التوازن، وتقرّ حياد لبنان الإيجابي وأن هذه الوثيقة يجب أن تحظى بدعم عربي وإقليمي ودولي وسيناقشها ماكرون في زيارته الخليجية مع قادة دول السعودية وقطر والإمارات وأنه ناقشها مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأن هذا المؤتمر سيكون بمثابة بوابة لتحريك المساعدات الدولية للبنان عبر مؤتمر أممي، وهذا المؤتمر سيكون باكورة أي اتفاق أمريكي-إيراني مقبل، وستكون المحادثات السعودية مع طهران قد بدأت مناقشة سبل نزع فتيل التأزم وقد يكون لبنان أولى محطات التلاقي.
السعوديون والإيرانيون: هل نوقش الملف اللبناني؟
لم يعد خافياً على كل المتابعين أن السعودية أخذت قراراً واضحاً بإعادة ترتيب علاقاتها المتأزمة مع دول المنطقة وأنها تود أن تعود المركز الأساس في الساحة الإقليمية بعد محاولات الإمارات خطف هذا الدور من المملكة، لذا فإن السعوديين وبعد إطلالة الأمير محمد بن سلمان الرمضانية والتي أطلق بها مواقف إيجابية نحو إيران والحوثي ودول الجوار بدأت حواراً جاداً مع إيران برعاية رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عبر مدير مخابراتها المركزية خالد حميدان والذي زار دمشق والتقى نظيره علي مملوك والرئيس بشار الأسد والتي مهدت زيارته لإعادة ترتيب العلاقة مع الأسد وفريقه بعد عقد من القطيعة.
واستكمل الانفتاح السعودي ليترافق مع حرب غزة والذي فتح الباب على لقاءات بين مسؤولين سعوديين مع قيادات من حركة حماس عرف منهم خالد مشعل -رئيس الحركة في الخارج- بعد حملة مكثفة دامت لسنوات لشيطنة الحركة في الإعلام السعودي، معطوف عليها مصالحة يتم التحضير لها مع الأتراك لإعادة وصل ما انقطع بين الطرفين.
هذا الانفتاح ترافق مع لقاء الحميدان-قآني في بغداد والذي يقال إنه ناقش الملف اللبناني في العمق ورغم أنه لم يصل لنتائج واضحة فإن متابعين يجزمون بأن السعوديين بدأوا يعيدون حساباتهم للعودة للبنان وفق شروطهم الواضحة والتي تراجع عنها على رأسها إبعاد سعد الحريري عن السلطة وهذا ما ترفضه طهران حتى الآن لكونها تعتبر أن الحريري وبعيداً عن السعودية لا يزال يتمتع بشعبية في بيئته السنية والتي لا تزال تتعاطف معه بشكل قوي عند كل منعطف وأن الانتخابات هي المفصل -في حال حدثت- لتثبيت حضور القوى في الساحة اللبنانية.
واشنطن تتحضّر لفتح الملف اللبناني
وفقاً للكاتب والمحلل اللبناني جوني منير فإنه وفي خط موازٍ، بدأ التحضير في الكابيتول هيل في واشنطن لجلسة مخصصة لعرض الوضع في لبنان. وكان من المفترض أن تبدأ هذه الحركة بعد الانتهاء من المفاوضات الأمريكية – الإيرانية حول الملف النووي، والمتوقع خلال الشهرين المقبلين، لكن الخطر الذي بات يطال مصير لبنان قد يكون الدافع وراء اختصار الوقت.
وأنه وفقاً لمنير يُحكى عن التحضير لجلسة استماع تضمّ لجنتي العلاقات الخارجية في كل من مجلسي الشيوخ والنواب، مخصّصة للأوضاع اللبنانية فقط. ومن المفترض أن يحضر جلسة الاستماع منتدبون عن عدد من الوزارات الأمريكية المختصة، إضافة إلى وزارة الدفاع والأمن القومي والمخابرات، وكذلك السفير ديفيد هيل، رغم انتقاله إلى القطاع الخاص، كونه خبيراً في الشأن اللبناني والسيناتور الديمقراطي تيم كاين، وهو أحد الناشطين على هذا الخط، قال في ندوة خاصة، إنّ الإدارة الأمريكية مهتمة في هذه المرحلة في مفاوضاتها النووية مع إيران، لكنه حتى الآن لم تحصل بعد مفاوضات مع إيران حول المسائل الإقليمية. إلا أنه اعتبر أنه لا مفرّ من الحديث بهذا الشق، كون ذلك يؤدي إلى تحصين الاتفاق ومنع التخريب عليه لاحقاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.