شكلت الهزيمة المتحققة للعرب في الحرب الحزيرانية (يونيو 1967) صدمة هائلة، لم تكن متوقعة، في البيئة السياسية الرسمية والشعبية، إذ استطاعت إسرائيل توجيه ضربة قوية لجيوش ثلاث دول عربية (مصر وسوريا والأردن)، بأيام معدودات، ما مكنها من احتلال باقي أراضي فلسطين (الضفة والقطاع)، ومعها أجزاء من أراض مصرية (سيناء) وسورية (الجولان). وما زاد من هول هذه الصدمة أن الهزيمة، هذه المرة، لم تكن من نصيب أنظمة رجعية أو بالية، على ما جرى التصنيف بشأن حرب 1948، والنكبة التي نجمت عنها، وإنما كانت من نصيب نظامين يمثلان حركة التحرر الوطني والقومية العربية (مصر وسوريا)، ولا سيما نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بالذات، الذي كان يتمتع بزعامة كاريزمية تشمل جماهير الوطن العربي، التي علقت جل آمالها عليه بالتحرير والوحدة والتقدم.
وفي الواقع، فإن تلك الحرب، التي مثّلت انعطافة حادة بين زمنين سياسيين، لدى كل من العرب وإسرائيل، وفي مجال الصراع بينهما، كشفت أو عرّت، أيضاً، العطب في النظام الرسمي العربي، على تباين توجهاته وخطاباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأكدت أن هذا النظام، على اختلاف شعاراته ومقولاته وادعاءاته، من نسيج واحد، لجهة عزل الجماهير عن المشاركة بتقرير شؤونها ومستقبلها، وإعلاء شأن السلطة على حساب الدولة ومؤسساتها، وتغليب الدولة الأمنية على دولة المواطنين، بدعوى متطلبات أو ضرورات الصراع العربي-الإسرائيلي؛ ما كشف حال التجبّر إزاء الداخل، والعجز والانكشاف إزاء الخارج.
وكما بات معروفاً فإن النظام العربي السائد (على تبايناته) حاول التغطية على الهزيمة أو النكبة الثانية باعتبارها مجرد نكسة، بادعاء أن تلك الحرب لم تحقق أهدافها! على أساس أنها كانت تتوخى إسقاط الأنظمة العربية التحررية والتقدمية، الأمر الذي لم يحدث. إضافة إلى ذلك فإن النظام العربي توافق، في تلك المرحلة، على تعويض الهزيمة بإطلاق العنان للعمل الفدائي الفلسطيني، من الأردن ولبنان وسوريا، لتنفيس الاحتقان في الوضع العربي، والتقليل من شأن الهزيمة، التي لحقت بالواقع العربي، وبالأنظمة السائدة؛ في لحظة تاريخية تتطلب سد الفراغ الرسمي العربي، في مجال الصراع ضد إسرائيل.
مع ذلك فإن حرب يونيو/حزيران أدت فيما أدت إليه إلى حصول نقلة كبيرة في السياسة العربية، إذ انتقل الحديث بعدها من مستوى الصراع على وجود إسرائيل إلى مستوى الصراع على حدودها، ومن مواجهة المشروع الصهيوني، إلى مواجهة العدوان الإسرائيلي. هكذا، وبنتيجة تلك الحرب تراجعت المقولات والشعارات -المتعلقة بقومية المعركة، وبشأن اعتبار قضية فلسطين بمثابة القضية المركزية للأمة العربية- إلى الوراء، بدعوى إبراز البعد الوطني الفلسطيني، والتركيز على دعم كفاح الشعب الفلسطيني، وهي مقولات على رغم أهميتها، إلا أنها كانت تتوخّى تبرير أو حجب الانكفاء الرسمي العربي في مجال الصراع ضد إسرائيل.
في الجهة المقابلة، أي على صعيد إسرائيل، فقد أدت الحرب إلى توحيد فلسطين أو ما يسمى "أرض إسرائيل الكاملة"، بحسب المصطلحات الإسرائيلية. وفي هذه المرحلة بات ثمة تطابق في الوعي الإسرائيلي بين دولة إسرائيل و"أرض إسرائيل"، وفق المفهوم التوراتي ("أرض الميعاد")، والمقصود هنا مناطق الضفة الغربية، وحيث القدس باتت موحدة، ما نتج عنه تطور سياسي إسرائيلي كبير لجهة اقتراب الصهيونية الدينية من الصهيونية القومية والصهيونية العلمانية. من ناحية أخرى فقد ثبّتت هذه الحرب دولة إسرائيل بمكانة دولة إقليمية قوية ورادعة، وحليفة للغرب، في نظر مواطنيها اليهود، وبالنسبة ليهود العالم، كما في عموم المنطقة، وعلى مستوى العالم. وبديهي أن نتائج هذه الحرب حسّنت من وضع إسرائيل الاقتصادي، بحيازة أراض جديدة ذات مناطق زراعية، وبتمكين إسرائيل من السيطرة على المصادر المائية (في الضفة والجولان)، واستخدام اليد العاملة الرخيصة من الضفة والقطاع، وتحويل هذه المناطق إلى سوق استهلاكية للبضائع الإسرائيلية.
طبعاً لم تكن كل النتائج إيجابية بالنسبة لإسرائيل، فثمة لكل شيء نتيجة مناقضة. هكذا أدى احتلال الضفة والقطاع إلى توحيد الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني أيضاً، إذ التقى فلسطينيو 48 مع إخوانهم في الضفة والقطاع، ما عزز من انتمائهم لأمتهم العربية، ومن مسار هويتهم الوطنية (الفلسطينية). وكان من نتائج ذلك أيضاً الإخلال بالأكثرية اليهودية، وظهور ما بات يعرف بـ"القنبلة الديمغرافية"، التي باتت تهدد الطابع اليهودي لدولة إسرائيل.
والحاصل فإن إسرائيل لم تستطع ضم الضفة والقطاع ولم تستطع أيضاً لفظهما (باستثناء وضع القدس الخاص وهضبة الجولان السورية)، بسبب ممانعة الفلسطينيين للاحتلال، ومقاومتهم العنيدة له، وبسبب تخوف الإسرائيليين من التحول إلى أقلية، وتحول دولتهم إلى دولة "ثنائية القومية". فوق كل ذلك، وبنتيجة هذه الحرب باتت إسرائيل تعرّف كدولة استعمارية، كونها احتلت أراضي بالقوة، وتسيطر على شعب آخر بوسائل القهر والقسر. كما باتت علامات الشك تطرح بشأن صدقية الديمقراطية الإسرائيلية، التي بدت بمثابة ديمقراطية لليهود وحدهم، في حين يجري التمييز بين السكان من غير اليهود، ما أثار شبهة العنصرية بالنظام الإسرائيلي، الذي بات نظاماً استعمارياً وعنصرياً في آن معاً.
وكما هو معلوم فإن غياب الحسم في إسرائيل بشأن مصير الأراضي المحتلة (الضفة والقطاع)، خلق انشقاقات سياسية وفكرية عديدة في المجتمع الإسرائيلي، بين اليمين واليسار، وبين مؤيدي التسوية أو الانسحاب من الأراضي المحتلة، وضمنهم أصحاب نظرية وحدانية شعب إسرائيل، من جهة، والقوميين المتطرفين، وضمنهم المستوطنين وأصحاب نظرية أرض إسرائيل الكاملة. ولعل ذلك يفسر عقد اتفاق أوسلو (1993) للتسوية مع الفلسطينيين، من جهة، وعدم استكماله من جهة أخرى، كما يفسر ذلك تحول إسرائيل في عهد شارون، نحو الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، الذي يقطن فيه حوالي مليون وربع من الفلسطينيين في مساحة ضيقة مقدارها 360 كم2.
في المحصلة، فإن كل الحروب التي خاضتها إسرائيل، بعد حرب (1967)، جاءت لتؤكد على نتائج تلك الحرب، ذلك أن إسرائيل التي هزمت العرب حينها، لم تستطع أن تحول ذلك إلى انتصار ناجز، من النواحي السياسية. فالعرب لم يذعنوا لنتائج هذه الحرب تماماً، برغم ضعفهم وتشتت أحوالهم. وبالنسبة لليهود فإن إسرائيل لم تتحول إلى ملاذ آمن لهم، بقدر ما باتت تعرف بأنها المكان الذي يقتلون فيه أكثر من أي مكان آخر، بسبب سياساتها، التي باتت عبئاً سياسياً وأخلاقياً على يهود العالم أيضاً، كما بينت وقائع مقاومة الشعب الفلسطيني في انتفاضاته وفي الحروب التي شنت على غزة. أما على الصعيد العالمي فباتت إسرائيل تعرّف بأنها آخر ظاهرة استعمارية من القرن العشرين، وبدأت علامات الشك تطرح علانية بشأن صدقية ديمقراطيتها، كما باتت الشبهات تثار حولها بشأن تحولها لنظام عنصري (أبارتايد). في المقابل، وبرغم حرب 1967، وباقي الحروب بعدها، ظلت إسرائيل بمثابة دولة مصطنعة وغريبة ودخيلة وغير شرعية في المنطقة، ومصدر قلاقل وعدم استقرار فيها، وكعبء سياسي وأمني وأخلاقي على الغرب.
كل المؤشرات تؤكد أن الحرب الحزيرانية ما زالت متواصلة، ولم تنته بعد، بآثارها وتداعياتها، لا بالنسبة لنا ولا بالنسبة لهم، إذ الصراع يبدو كأنه عند النقطة ذاتها، كما أكدت هبة شعبنا من النهر إلى البحر في الأيام الماضية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.