أصبحت المراهنات المالية على الرياضة بصفة عامة وكرة القدم بصفة خاصة جزءاً لا يمكن فصله عن صناعة الرياضة العالمية. وأضحت المراهنات أحد الأفرع المتحكمة في السوق المالية للأندية وداعمة لأغلبها بالأموال. لذا أصبحنا نرى إعلانات شركات المراهنات على قمصان الأندية الكبرى بعد أن كان هذا ممنوعاً منذ زمن. المراهنات تيار جارف وعاتي شهد دخوله لكرة القدم العديد من الفضائح لمن باعوا أنفسهم بغرض كسب المال الوفير حتى وإن كان هذا على حساب مراهنين صغار، كيانات وأندية ولاعبين تورطوا بشكل مباشر في فضائح كبرى مسَّت سمعتهم ودمرت مستقبل بعضهم الكروي.
هنا نستعرض سوياً ما تمثله المراهنات لكرة القدم حالياً وأشهر الفضائح المرتبطة بها.
بدايات المراهنات
لا يوجد تاريخ محدد لبداية دخول المراهنات الرياضية في عالم الرياضة وكرة القدم تحديداً. فمع ميلاد التنافس الرياضي، بدأت المراهنات، دائماً هناك لاعب، فريق، أو جو مفضل للفوز وآخر للخسارة، ويقف من ورائهم إما أناس يؤمنون بحظوظهم في الفوز أو على يقين من خسارتهم.
في بدايات تحول الرياضة إلى صناعة بشكلها الحديث، كانت المراهنات غير قانونية، وتتم برعاية أعتى المجرمين في كل منطقة سواء كان هذا في أوروبا أو أمريكا اللاتينية، حتى قررت الحكومة البريطانية دخول المراهنات عالم كرة القدم بصفة رسمية في العام ١٩٦٠ ووضعت قانوناً ينظم العمل بها ويفصل بين المراهنين وشركات المراهنات.
بعد شرعنة الرهانات أصبح الأمر متاحاً للجميع بصفة رسمية لكن ذلك لم يمنع المتحكمين في نتائج المباريات من التلاعب، سواء كان هذا التلاعب لصالحهم أو لصالح من يعملون لحسابهم أو لحساب أحد أقاربهم. شهد عام ٢٠٠٩ ذروة الفساد على مستوى أوروبا، تم ضبط مائتي مباراة في كرة القدم تم التلاعب في نتائجها لصالح المراهنين الكبار نتج عن ذلك دخول البعض منهم للسجن.
مشاهير وقعوا في الفخ
العديد من مشاهير كرة القدم وقعوا في خطيئة المراهنات سواء عن طريق القصد أو بسبب الجهل باللوائح والقوانين، آخرهم كان النجم السويدي زلاتان إبراهيموفيتش الذي يملك أسهماً في شركة للمراهنات وطبقاً للقانون فمن الممنوع امتلاك لاعب كرة القدم المحترف أسهماً في شركات المراهنات على المباريات، أو أحد أقاربه من الدرجة الأولى ومازال الموضوع قيد التحقيق حالياً. كذلك بول سكولز لاعب مانشستر يونايتد السابق وأحد ملاك نادي سالفورد سيتي الإنجليزي، خرق الحظر المفروض عن ملاك الأندية ووضع عدة رهانات بلغت مئة وأربعين رهان في أربع سنوات متتالية بما يخالف ميثاق العاملين في مجال كرة القدم. كذلك تم اتهام دانيال ستوريدج لاعب ليفربول السابق بالضلوع في مساعدة أحد أقربائه؛ لأنه راهن بمبلغ عشرة آلاف جنيه إسترليني على انتقال ستوريدج لنادي آخر، لكن اللاعب نفى معرفته بالأمر وتعاون بشكل كبير مع المحققين.
تبقى عقوبة اللاعب جوي بارتون لاعب مانشستر سيتي السابق هي الأكبر في تاريخ المراهنات بعد ما نما إلى علم لجان الانضباط بالاتحاد الإنجليزي أن اللاعب قام بـ ١٢٠٠ عملية رهان وهو ما يعد خرقاً واضحاً وصريحاً للوائح كان نتيجتها إيقافه عن اللعب لمدة ١٨ شهراً وبالتالي اعتزاله كرة القدم في سن مبكرة للغاية.
أغرب الفضائح
أما أغرب فضائح المراهنات فكانت في نيجيريا بين فريقى بلاتو يونايتد وبوليس ماشين، وانتهت المباراتان بفوز بلاتو يونايتد ذهاباً وإياباً بنتيجة ٧٩-٠ و ٦٧-٠.. نعم عزيزي القارئ تلك النتيجة كانت في مباراة كرة قدم وليست في مباراة لكرة السلة، بعدها قرر الاتحاد النيجيري فتح تحقيق فوري واكتشف شبكة كبرى تضم مسؤولي الناديين ومراقبي المباراة واللاعبين ليقرر حرمان الجميع من ممارسة كرة القدم أو التعامل معها لمدة عشر سنوات.
الكالتشيو بولي
"الكالتشيو بولي"، فضيحة هزت كرة القدم الإيطالية قبل انطلاق كأس العالم عام ٢٠٠٦ ونتج عنها سحب لقب الدوري من نادي يوفنتوس وهبوطه إلى الدرجة الأدنى بالإضافة لعقوبات كثيرة على أندية ميلان، فيورنتينا، لاتسيو، ريجينا، وحكام وإداريين ومسيري كرة قدم بالاتحاد الإيطالي لكرة القدم. الفضيحة كانت في تسريب مكالمات تليفونية للوتشيانو مودجي المدير التنفيذي لنادي يوفنتوس آنذاك، بطلبه حكام بأعينهم لإدارة مباريات الفريق وكذلك فعل العديد من مديري الأندية الأخرى بالإضافة إلى مباريات تم التلاعب في نتيجتها لصالح مراهنين بأموال كثيرة.
هذه لم تكون السابقة الأولى في إيطاليا، وأعتقد أنها لن تكون الأخيرة، فقد سبقها عدة فضائح أخرى عام ١٩٨٠ تسببت في هبوط ناديي ميلان ولاتسيو من الدرجة الأولى للدرجة الثانية وتسببت في الحكم بالسجن على مهاجم المنتخب الإيطالي وهداف كأس العالم ١٩٨٢ باولو روسي مع إيقاف التنفيذ.
إيطاليا وخصوصية المراهنات
تنتشر ماكينات المراهنات في شوارع ومقاهي إيطاليا بشكل غير مسبوق عن أي مكان آخر في العالم، ماكينات تمثل حلم الثراء بالنسبة للكثير من الإيطاليين الذين أنهكتهم الأزمات الاقتصادية وباتوا يبحثون عن حلم جمع الأموال داخل تلك الأجهزة الصماء. وبرغم قيام الحكومة الإيطالية بسن الكثير من القوانين المشددة لمحاولة السيطرة على التدفق المالي النقدي في سوق المراهنات، ما زال يلجأ الفاسدون وأصحاب الأموال المشبوهة لحيل كثيرة للتغلب على تلك الموانع القانونية.
المراهنات وغسيل الأموال
المراهنات هي كنز دفين لكل العاملين في غسيل الأموال القذرة سواء التي أتت عن طريق تجارة المخدرات أو السلاح أو الرقيق الأبيض أو أي ممارسات أخرى. هناك منظمات كبرى مهمتها الوحيدة هي تبييض تلك الأموال وتحويلها إلى طرق شرعية وحسابات بنكية سليمة، وكان الأمر سابقاً يتم بشراء منازل أو متاجر ولكن القوانين المشددة في أوروبا بمنع تداول البنكنوت وتحويل الأمر بالكامل إلى التعامل البنكي جعل تلك المنظمات تغير استراتيجية عملها وتتجه للمراهنات الرياضية لسببين:
أولاً، إن قوانين تداول الأموال السائلة لا يطبق بنفس القوة على بعض المناطق في أوروبا فيما يخص المرهانات الرياضية.
ثانياً، لأن تلك المنظمات المشبوهة كانت تخسر ٣٠٪ من قيمة الأموال في حال تحويلها لأموال شرعية ليس عليها شبهة، أما في حالة المراهنات فالخسارة هنا لا تتعدى الـ١٥% فقط.
من أجل أن نفهم كيف يتم ذلك الأمر، فلنضرب مثالاً بمباراة يكون طرفاها متكافئين في القوة، مانشستر يونايتد يلاقي تشيلسي.
تضع شركات الرهان رقم "٢.٥٠" لفوز مانشستر يونايتد و "٢.٥٠" لفوز تشيلسي و "٢.٥٠" في حالة التعادل وهذا الرقم هو "المعادل" الذي سيتم ضربه في مقدار رهانك الذي وضعته، والناتج ستتقاضاه في حال حققت النتيجة الصحيحة.
يأتي بعدها مندوب عن تلك المنظمات لمكتب المراهنات في أبهى حُلة ممكنة ويدخل حاملاً لحقيبة بها مئة ألف يورو ويراهن على فوز تشيلسي. في نفس الوقت يدخل زميل له بنفس المبلغ لشركة أخرى للمراهنات ومكتب آخر مختلف ويراهن على فوز مانشستر يونايتد ثم يدخل زميلهما الثالث لشركة ثالثة ويضع الرهان على التعادل.
بذلك تكون المنظمة دفعت ٣٠٠ ألف يورو ليعود إليها مبلغ ٢٥٠ ألف يورو بخسارة قدرها ١٥% ولكنها ليست خسارة مطلقاً.
يعود بعدها حامل الرهان الفائز لشركة المراهنات ليطلب منهم تحويل المبلغ للحساب البنكي الخاص بتلك المؤسسة المشبوهة لتصبح أموالاً شرعية صعبة التتبع ودخلت إلى البنك في صورة رهان شرعي رابح ليس عليه قيود ولا حد نهائي لحجمه وقيمته.
ثورة قادمة في إنجلترا على شركات المراهنات
جميع الأندية الإنجليزية في الدوري بدون استثناء لها شراكة مع واحدة على الأقل من شركات المراهنات، وأغلب هذه الشركات تضع ما يسمى "العلامة البيضاء".
والعلامة البيضاء معناها أن الشركة ليس لها كيان قائم في بريطانيا ولم تحصل على ترخيص من المملكة المتحدة وأن مقرها موجود في إحدى دول جزر الكاريبي الصغيرة أو بنما أو مالطة حيث لا وجود للرقابة المالية ولا تتبع لمصادر الأموال. أي أن الشركة مجرد موقع إلكتروني يضم ملايين البيانات ويستخدم ملايين المعلومات البنكية السرية ويحركهم في أي اتجاه يريده القائمون عليها وبالتالي تزيد فرص الفساد بأنواعه.
في يناير/كانون الثاني الماضي وضع نادي توتنهام الإنجليزي على إحدى تغريداته على تطبيق تويتر رابط إحالة خاصاً بإحدى شركات المراهنات التي ترعاه مما تسبب في سن بعض القوانين الخاصة عن طريق الهيئة التنظيمية التي تقوم بوضع الضوابط والشروط الخاصة بعمل المراهنات، منها عدم وجود روابط إحالة لأي موقع مراهنات على الصفحات ووسائل التواصل الاجتماعي الرسمية للأندية، الشيء الوحيد المسموح فقط هو العلامة التجارية لتلك الشركات بشرط أن تكون تلك الشركة هي الراعي الرئيسي للنادي وبشرط آخر أن يضع النادي علامة "+18" على ذلك الإعلان.
الحكومة البريطانية أدركت أن الأمور وصلت لمرحلة كبيرة من الفساد المالي والرياضي ويجب السيطرة عليه قبل أن يتفاقم الوضع أكثر من ذلك، وهناك أخبار كثيرة تتعلق بوضع جدول زمني محدد للأندية الإنجليزية بمختلف درجاتها للتخلص من الرعاة الرئيسيين للأندية ومنع شركات المراهنات من عمل رعاية رئيسية لنادي في بريطانيا ووضع الإعلان الخاص بها على قميص النادي، وحتى يتم ذلك الأمر ستكون الأندية المتعاقدة مع شركات مراهنات بعقود طويلة الأمد مسؤولة عن طباعة قمصانها الخاصة بالأطفال بدون هذه الإعلانات.
تصاعد الأمر في بريطانيا جاء لعدة مشاكل وشبهات فساد حدثت، منها عقد رعاية شركة "Manbet x" والتي يقع مقرها الرئيسي في دولة مالطا، والتي ترتبط بعقد مع نادي وولفرهامبتون الإنجليزي ووجهت لها السلطات المالطية اتهاماً بغسيل الأموال وتمويل جماعات مسلحة وغرمتها مبلغ ٧٠٠ ألف يورو، وهذا برغم أن السلطات المالطية معروف عنها التساهل في السماح للأموال القذرة والشركات والمنظمات المشبوهة بالتواجد على أرضها.
وفي الموسم قبل الماضي لعب ناديا هدرسفيلد ضد بيرنلي مباراة في دوري البطولة الإنجليزية وعلى قمصانهما إعلانان لشركتي قمار ومراهنات، لم يكن لهما أي مقر في بريطانيا أو أي موقع فعال على الإنترنت يسمح برهان المواطن البريطاني عليهما، وتتم المراهنات عليهما في آسيا فقط. آسيا تحديداً مسرح كبير لعمليات الرهانات المشبوهة وتستخدم الدوري الإنجليزي للترويج لبضاعتهم الفاسدة، خصوصاً أن أغلب مؤسسات الرقيق الأبيض والمخدرات والتجارة في الأعضاء البشرية مقرها في آسيا.
بالإضافة إلى أن نادي إيفرتون الإنجليزي قرر قطع رعايته من طرف واحد مع شركة مراهنات مقرها في كينيا بسبب الخوف من علاقتها بالإرهاب وتمويله في إفريقيا.
الجديد أن نادي الأرسنال الإنجليزي أعلن عن شراكة مع شركة مراهنات تسمح باستخدام العملات الرقمية المشفرة (البيتكوين) في المراهنات، وبالتالي أصبح تتبع مصادر تلك الأموال ومعرفة من أين أتت أو إلى أين ستذهب ضرباً من ضروب الخيال ويفتح باباً أكبر للفساد المالي والرياضي.
بعد كل تلك الممارسات تقلص عدد الأندية البريطانية المتعاقدة مع شركات رهان وقمار من ١٠ إلى ٨ أندية في بداية الموسم المنتهي، والعدد مرشح للتناقص في بداية الموسم القادم بعد التضييق الذي فرضته الحكومة الإنجليزية على تلك الشركات.
خاتمة
كرة القدم لم تعد لعبة بين ٢٢ لاعباً في أرض الملعب وإنما أصبحت صناعة كبيرة تجذب المستثمرين ورجال الأعمال وحتى بعض الدول لما فيها من شهرة. لذلك من غير الممكن السماح للفساد أن يتوغل فيها أكثر من ذلك، لأن الأمر أصبح مرتبطاً بمدخولات كبيرة وعمال وموظفين ومديرين ومئات الآلاف من فرص العمل التي وفرتها كرة القدم. وبما أن المراهنات هي عامل مهم وباب كبير ومفتوح لدخول ذلك الفساد، وبما أن هذا الباب أصبح إغلاقه مستحيلاً. الحل هو سن الكثير من القوانين المنظمة واللوائح التي لا يستطيع أن يتجاوزها أحد أو يتلاعب بها أحد، ماذا وإلا ستتحول كرة القدم اللعبة الجميلة الممتعة الجاذبة للمليارات حول العالم إلى المسرح الأول لعمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وتجارة السلاح وفعل كل ما هو مشين تحت ستار المراهنات.
المصادر:
. صحيفة الغارديان: نيجيريا توقف فريقي كرة قدم بسبب الفضيحة 79-0 و 67-0. تقرير خاص: كيف يرعى قميص الدوري الإنجليزي الممتاز "تسهيل المقامرة غير القانونية"
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.