كادت عملية توطين اليهود في حي الشيخ جراح أن تتم بهدوء، إلا أن هناك رغبة سياسية أرادت أن يتطور الأمر، فانتشرت مقاطع مصورة مستفزة لمستوطنين يسلبون فلسطينيين ممتلكاتهم، وصور اقتحامات لساحات المسجد الأقصى، ما ألهب حس الشارع العربي الذي لم ولن يندمل جرح طعنة الاستعمار في قلبه النابض "فلسطين".
بعد مواقف النظام الانقلابي المصري المائعة التي كانت أقرب لمؤازرة الكيان المحتل منها إلى مساندة فلسطين في 2014، لم يكن أحد يتصور أن تخرج تصريحاته اليوم بكل هذا الحماس إلى الدرجة التي أصابت بعض المتابعين بصدمة تحليلية، فمنهم من ظن أن ما يحدث هو تكتيك يقابل به زعيم الانقلاب إهمال بايدن لقضية سد النهضة، ومنهم من اعتبره نوعاً من المكايدة للإمارات لاتخاذها موقفاً حيادياً مع إثيوبيا، ومنهم من اعتقد أن هناك عقلاً ألمعياً جديداً دخل قصر الاتحادية غير من استراتيجيته الخارجية.
وهنا وجب توضيح عدة أمور قد تفيد في جلاء غموض الموقف المصري:
أولاً: يتمسك النظام المصري باشتراكيته منذ انقلاب يوليو/تموز 1952، يتأرجح بين ألوانها الألمانية، والبريطانية، والفرنسية، لكنه أبداً لم يحد عنها حتى وإن اتبع رأسه بعض السياسات التي توحي بتغيير توجهه، فأشباه الدول دائماً تكون أضعف من أن تتمسك بمبادئها إذا ما طغت اتجاهات مضادة تسيطر على العالم، فتجدها تلجأ إلى رماديات نظامها الأم، كأن تلجأ دولة اشتراكية مثلاً إلى "رأسمالية الدولة".
ثانياً: لجأ السيسي إلى "رأسمالية الدولة" حين انقلب على الرئيس مرسي واستخدمها للتسويق لنفسه لدى رأسماليي العالم الأول الذي كان يحتاج "لبديل ضرورة" يحكم مصر. برغم ما ظهر من تقارب بين السيسي وترامب، فإن الأخير عامله كقاتل أجير تعلق بذيل جلابيب رأسماليي النفط. مثل السيسي "كوبري" المرحلة العالمية المعاصرة. لم يدخل الاتحادية فكر جديد، إنها نفس الحرباء تتلون بحسب إشارات ضوئية يرسلها ساكن البيت الأبيض.
ثالثاً: يرفع النظام الاشتراكي شعار "حل الدولتين" والحفاظ على القدس الشرقية عاصمة للقدس، لأنه يؤمن بالاحتلال الاستيطاني التدريجي والتفتيت الداخلي الذي لا يثير ضجة، ولا يسبب عداوات مع دول المنطقة بل على العكس يكسب منهم داعمين له، بينما يتبنى النظام الرأسمالي الصدامي الرافض للتخلي عن وحدة الأرض رؤية متطورة لمسألة حل الدولتين تسمح للفلسطينيين بإقامة مقاطعة لهم لا تحمل صفة الدولة.
رابعاً: إن انتفاضات فلسطين المضادة هي إفرازات مناعة جسد الأمة ضد قيح دمل اتفاقية كامب ديفيد التي مثلتها مصر وإسرائيل بالنيابة "صناع النظام الاشتراكي والرأسمالي"؛ لذلك فالحسم في فلسطين لا يمكن أن يتم إلا بقيام حرب عالمية شاملة نسمع دق طبولها اليوم.
خامساً: لا يجب أن تؤخذ التصريحات الإعلامية عموماً على محمل الجد؛ فمثلاً كانت تصريحات بايدن عن السيسي عنيفة، ثم استبدلت بغض طرف، وصفقة سلاح، وكلمة شكر توحي بأن اتفاقاً يحمل توافقاً اشتراكياً هادئاً غير معلن تم إطلاقه، ويعيدنا هذا إلى تغيرات إقليمية حدثت بعد هزيمة ترامب، كالعلاقات التي بدأت تعود نوعاً ما بين تركيا ومصر.
سادساً: شهدت السنوات الأخيرة نشاطاً مخابراتياً مصرياً حماسياً، بعد أن رفعت مصر الحركة من قوائم الإرهاب منذ 2015، امتد هذا النشاط حتى فوز بايدن الداعم لعودة العلاقات مع إيران التي بدورها تحمل على عاتقها تسليح حماس. تسوء أو تتحسن علاقة أمريكا وإسرائيل بإيران التي اعتمدت النظام الاشتراكي منذ بداية الثورة الإسلامية بحسب رأسمالية أو اشتراكية "ديمقراطية" الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي.
سابعاً: هناك تواصل بين مسلكي بايدن والسيسي الإعلاميين، فبايدن يستخدم كتيبته كورقة ضغط يخرج من خلالها بقرار يوافق أهدافه، حتى لو أجبر سياسياً على أن يصدر تصريحات يرفضها؛ ويستعمل السيسي الذي أطلق بدوره جوقته الإعلامية لتعزف لفلسطين لحن الوفاء، مبدياً حياداً سيادياً، بينما تعمل يده في الخفاء، فمن ذا يصدق أن الأخير قد يتحد مع حركة إسلامية في هدف واحد!
ثامناً: تبرع السيسي لفلسطين بخمس مئة مليون دولار، وأعلنت الصين عن رصدها مليوناً، وصرح بايدن بتخصيصه حفنة ملايين ليشاركوا جميعاً في عملية "إعادة إعمار" لا تهدف لإعادة بناء ما خرب وإنما تضخ هذه الأموال في مقابل تدخل الدول المانحة في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والمؤسسات وفرض رؤيتها من خلال تصالحات تخدم مصالحها؛ إذاً فالنظام المصري وحلفاؤه الاشتراكيون يعلنون غزوهم للشأن الفلسطيني.
تاسعاً: تتشنج بعض الأنظمة الأوروبية وتؤازر إسرائيل ليس لعقدة شعور بالذنب أو لمصالح مشتركة فقط، بل لرعبهم بعد إرسال يهود إسرائيل إشارات تهديد باللجوء للدول الأوروبية حال استمرار هجمات المقاومة.
عاشراً: مخطئ من يظن أن الأحداث العالمية تنفصل عن بعضها، فإعادة إيران لطاولة مفاوضات الاتفاق النووي ترتبط بدعمها لحركة حماس بفلسطين، ودعم الصين للفلسطينيين مرتبط بمشاريعها في إفريقيا وعلاقاتها بالشرق الأوسط، ودعم مصر لحماس مرتبط بتدريس الصينية كلغة ثانية في مناهجها وبمفاوضات سد النهضة.
حادي عشر: يفجر الاشتراكيون الاضطرابات في فلسطين كل مرة في محاولة لجر المجتمع الدولي لإقامة مؤتمر بهدف إعادة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، كما حدث في أوسلو ١ و٢، لوزن معادلة تواجدهم في المنطقة من جديد، وهذا ما دعت إليه الصين ذات الطبعة الاشتراكية الجديدة هذه المرة، ورفضه الاتجاه الرأسمالي الضاغط على بايدن في الولايات المتحدة.
ثاني عشر: لا يتحرك السيسي في فلسطين رداً على إهمال بايدن لقضية سد النهضة، فهو لم يكن ليتحدث عن خطوط حمراء، أو يصنع مناورات مصرية سودانية، أو يرسل تهديدات لو لم يصله ضوء أخضر من البيت الأبيض.
ثالث عشر: لا أعتبر حراك النظام المصري فلسطينياً دفاعاً ناجحاً عن وجوده في المنطقة التي تسيدتها الإمارات اقتصادياً، فقد منحها في عمق أرضه ما يجعل خطواته الباهتة تبدو هناك مثيرة للشفقة.
هناك مؤامرات ومخططات، وخبث كثير، ووهم ودخان، لكن الحقيقة البيضاء الوحيدة وسط كل هذا السواد هي تلك النفوس الطاهرة التي تهب نجدة للأقصى ولأرض فلسطين، طارحة خلفها كل هذه الحسابات، لا تفكر في خسارة مهما كان حجمها، لا تفكر حتى إن كانت سترى نصراً، تهزم عدوها ببسمة عنيدة في قيد أو بين أحضان كفن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.