“بوجارت اعزف لي لحناً كلاسيكياً”.. رواية لذكر وأنثى في جسد واحد!

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/29 الساعة 13:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/29 الساعة 13:52 بتوقيت غرينتش
Istock

تبدأ رواية "بوجارت اعزف لي لحناً كلاسيكياً" بتعريف نفسها للقارئ. وجيه، بطلها، رجل يتمم عامه الستين، يحاول كتابة مذكراته فلا يمسك إلا بالقليل من رحيق العمر؛ نظراً لتزاحم الأحداث في رأسه، وقسوتها. الذكريات جحيم مشتعل دوماً!

يستعد وجيه لحفل وداعه في مصلحة البريد، حفل التأبين كما يطلق عليه كل موظفي المصلحة، والذي يرتدي فيه كل الموظفين ملابس تناسب حفلاً من الدرجة الثانية لرثاء المعتزلين عن الروتين اليومي القاتل.

يجمع الرجل أشياءه القليلة، ويبدأ في محاولات إيجاد طريقة للهرب من المنزل بصورة مستمرة، المنزل الذي لم ينعم فيه يوماً بالراحة.

"ولماذا تفعل ذلك؟ ها قد لقيت نتيجتك، وماذا جنيت؟ ترى أين تذهب القطط بعد الموت؟ هل تحلم؟ هل يقابل أحدها الموتى في الجنة؟ لم يكن أحد ليجيبه".

وجيه وفريدة في جسد واحد

بعد بضع صفحات من "بوجارت اعزف لي لحناً كلاسيكياً"، نبدأ في التعرف على فريدة حينما يقرر وجيه أن يمنحها الظهور، أو حينما تجد الكاتبة "جيلان صلاح" طريقة مناسبة للإعلان عن بطل آخر للعمل.

نظنها حباً لم يحصل عليه الرجل البائس، ثم تهوي المطرقة فجأة على رأس مستكشف الحكاية. وهل للكتاب أي قيمة إلا حينما يكون كالمطرقة على رؤوسنا كما يقول فرانز كافكا؟!

فريدة هي الأنثى المحبوسة في جسد الرجل الناعم حليق الذقن، رجل كاد أن يولد أنثى لولا قرار الإله في اللحظة الأخيرة أن يولد ذكراً فوُلد.

"بوجارت اعزف لي لحناً كلاسيكياً" رواية عن الاغتراب، شعور المرء بالعزلة الدائمة حتى وهو بين الناس.

يستحضر الرجل فريدة وهو في المخزن، كدجال يستحضر عفريتة أو يستخرجها من قمقم، يتزين ويتعطر، يرتدي الملابس النسائية ويختلي بنفسه، يضع الشعر المستعار- الباروكة- والأظافر والرموش الصناعية، يصبح بروح امرأة ولكن في جسد مستعار، بينما كل ما يمضيه خارج هذا المخزن من حياته يقضيه بجسد خالٍ من الروح.

يستحضر ذكرياته مع أبنائه المتفرقين في البلاد سعياً لجني المال، ابنه في البلد العربي ينهاه عن التدخين وشرب الخمر والترحم على غير المسلمين، بينما ابنه الآخر الذي لا يأتي لمصر تقريباً يراه رجلاً رجعياً، لا يناسب مظهره ومظهر أولاده الغربي الحداثي.

"لماذا حج؟ لا ينكر أن الأمر منحه وجاهة اجتماعية كان يحتاجها، كما أن يسرية عادت من الحج متعبة ورقدت في الفراش شهرين، وكانت هي أجمل أيام حياته، رغم شعوره بالذنب كونه فرح بمرضها. لكن الأمر لم يكن متعلقاً بيسرية نفسها، فهو لم يتمن لها أبداً شراً، هو فقط أراد لها أن تتركه حراً طليقاً، يستطيع أن يقابل فريدة متى شاء، ويخرجها كلما أرادت هي الخروج، لا كلما سنح 

الوقت لذلك".

تتجاوز الكاتبة فكرة الرغبة الجنسية للرجل أو رغبة المرأة الكامنة في روحه، لا تُحيلنا الرواية للصراعات المعتادة عن العبور الجنسي أو معضلات التكوين الجسدي أو تضارب الرغبات الجنسية داخل الجسد الواحد. تبتعد عن تلك الإشكالية لتُحيلنا لصراع الوجود ذاته. حقيقة تحقق المرء من هويته ومن نفسه. هل نعيش كما نريد، هل كل ما نفعله نابع من رغبتنا في فعله، أم أنها القيود المجتمعية التي تُفرض على المرء منا من تاريخ ولادته حتى موعد الرحيل.

في "بوجارت اعزف لي لحناً كلاسيكياً"، يتصارع وجيه مع يسرية، لوجود عدة دوافع، أبرزها الملل، لا يستطيع الرجل أن يتحمل نوبات غضب المرأة، يقرر أن يترك الأمر لها حتی تكف عن تعذيبه، حتی حينما قتلت القط لم يستطِع أن يثور عليها رغم رغبته، ولكنه يؤثرها في داخله وينعزل.

همفري بوجارت

يتبادر في ذهن القارئ أن "بوجارت اعزف لي لحناً كلاسيكياً" ربما تحكي عن نجم هوليوود الشهير "همفري بوغارت"، ولكن بوجارت هنا لا يحضر إلا بنظرة عينيه فقط التي شابهت نظرات القط الأسود الذي التقى بفريدة ولم يهرب منها؛ لأنها لم تخف منه كعادة خوف الناس من القطط السوداء التي يقال إنها شياطين أو أنها تجلب النحس. ربما وقع هذا القط في حب فريدة، وربما هذا كان سبباً كافياً ليموت بطريقة بشعة، لتُلقي الكاتبة نظرة عن كثب على حقيقة يعرفها البشر منذ بداية وجودهم، ألا وهي أن الحب في النهاية يقترن بالفراق.

يستمر الرجل في وحدته حتى يلتقي بماري المشعوذة التي تعرف ما يخفيه الرجل بمجرد النظر، تعرف بأزمة فريدة، تری محاولات العجوز وهو يجاهد كي يقمع الأنثی بداخله.

هي أيضاً تعاني من أزمة التحقق، لا تصل لما تريده، مكتئبة وتفشل دائماً في تأكيد هويتها ككاتبة، تصارع العالم الذي لا يؤمن بموهبتها، تصارع حقيقة عدم قدرتها على الإنجاب والتي تعني اختفاءها من العالم بمجرد تحرر روحها من الجسد المادي. بلا حب ولا بلا أطفال وبلا أي نجاح يمكن أن يشير إلى أن هناك امرأة تدعى ماري كانت تعيش هنا، ستختفي.

على مدار "بوجارت اعزف لي لحناً كلاسيكياً" العمل الذي تمت كتابته بانسيابية شديدة ولغة شفافة تقلل من وطأة الحزن والألم الذي تسرده الحكاية، والتي علی رغم صغر حجمها مما يجعلنا نطلق عليها قصة طويلة أو رواية قصيرة تقع في  "108" صفحات فقط، نرى الحياة في قسوتها دون أي تجميل، رجل يملك الأبناء والأحفاد ولكن الحزن يسكنه ويحيط به، خلق فيه حالة من السكون والصمت اللذين تخلفهما الوحدة ومضادات الاكتئاب. عمر يمر وملامح العجز تطفو على الروح وتكبح كل المشاعر. يتردد الرجل في ترك دفة قيادة السفينة بلا قائد؛ لأنه يوقن أن السفينة ستغرق بلا محالة ما دامت الحرب بينه وبين نفسه، هو المنتصر وهو المهزوم.

"إنه لم يمت. سيظل. سيبقى لن يتركهم يأكلون روحه، يقطعونها إرباً إرباً ويلقونها لكلاب الشارع وقطط الأزقة المظلمة، أو يوزعونها نوراً ورحمة؛ طلباً في الثواب من الله. سيظل يعافر وينتصر. دقي يا مزيكا"!

جيلان صلاح هي كاتبة مصرية من الإسكندرية تُعد "بوجارت" أول أعمالها الروائية، حصدت الرواية المركز الثاني بالمسابقة الأدبية المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة. وصدرت عن دار "ضمة" المصرية بعام 2020.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد