"ياما سمحلي والمكتوب الداني.. ماشي بلعاني.. عيت ما نصبر مكواني.. والضري دخلاني"، بهذه الكلمات يودع الشاب سهيل صغير أمه، على أن يكون اللقاء في العالم الآخر إن شاء الله. فكيف تمكن هذا الشاب الصغير من أن يتكهن بوفاته؟
لوركا أيضاً توقع ذلك:
"وعرفتُ أنني قتلتُ..
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط".
- الشاعر الإسباني، فرانشيسكو لوركا
في ثلاثينيات القرن الماضي عاشت إسبانيا حرباً أهلية امتدت ما بين 1936-1939، بدأها الجنرال فرانكو، الذي أعلن تمرد العسكريين من تطوان، المدينة المغربية، وهكذا وفي غضون ثلاث سنوات بين الجمهوريين والعسكريين، وقعت إسبانيا في يد الديكتاتور فرانكو.
إبان الحرب الأهلية ولكون عائلته من العائلات المناوئة للجمهوريين، تعرض الشاعر الإسباني العظيم فرانشيسكو لوركا للإعدام من طرف القوات الإسبانية.
أعدم، وجثته لم تظهر ليومنا هذا ولم يعرف مصيرها، وهكذا يكون شاعرنا قد استشرف مستقبله وعلم بما هم فاعلون به.
ولكن أبى الرجل إلا أن يسطر ملحمة ضد الاستبداد، فلما أرادوا رميه، وقف وقرض آخر شعره، فقال:
"ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟
قولي كيف أستطيع أن أحبّـك
إذا لم أكن حراً؟
كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟".
ما الذي يجمع بينهما؟
الذي يجمع بين الشاب سهيل الصغير ولوركا أن كليهما أنشد آخر قصيدة عن الرحيل، وأن الاثنين ابتليا بأنظمة ديكتاتورية ظالمة.
يقول لوركا "وعرفت أنني قُتلت"، ويقول سهيل: "والمكتوب الداني"، كلا الرجلين ينشد الموت، يزف نفسه نحو العالم الآخر، يقدم حياته قرباناً لأولئك الذين يعرفونه، ويحاول أن يحذر البقية من أن هذا النظام الذي يحكمكم ويجثو فوق صدوركم نظام الموت، لن يترككم إلا جثثاً هامدة لا تسمع ولا ترى، وهكذا فعل من قبل وسيفعل من بعد.
لم يكتفِ النظام الجزائري، كباقي الأنظمة العربية والأنظمة الديكتاتورية في العالم، بسرقة خيارات البلاد وتكديس الثروات في بنوك سويسرا، بل أمسى حانوتياً ضامناً لكل مواطن قبراً وكفناً في إطار توزيع عادل للحكرة والظلم، فهو لا يمارس الظلم إذا تعلق الأمر بتوزيع العذاب والآلام؛ فهذه مهمته المقدسة التي أوكلت إليه من طرف من وضعوه هناك.
هكذا يحب الشاب سهيل نفسه مطالباً بأن يركب البحر ويرمي بنفسه في غمامه على أن يبقى في سجن هذا النظام الفاسد السارق للعباد والبلاد، وكذلك يختار آلاف العرب الآخرين، ولسان حالهم يقول: "اللهم الموت ولا المذلة".
ومن لم يستطع لذلك سبيلاً وضاقت به السبل ويئس من الحياة وأغلقت في وجهه كل الأبواب، أخذ نفسه وأعلاه إلى العزيز الرحيم في رحلة اختيارية، صعبة لكنها شجاعة للغاية ومهابة، سنبكيه إذا ما وجدنا جثته، وقد علقت لكننا سنقف احتراماً وإجلالاً لهذه الروح الطاهرة.
أهي الفوضى؟
يتم إنشاء حزب معين من أجل خدمة الشعب في بلد معين باتباع فكرة معينة، لكن سرعان ما يتداخل الكل في الكل، ويتخبط هذا بذاك، فيصبح الحزب يخدم نفسه من أجل نفسه ولو على حساب الشعب الذي أسس من أجله، دون أي اعتبار للمبادئ والأخلاق.
والدولة التي تأسست من أجل الإنسان أصبحت تستعبده، فغدت بعد أن كانت وسيلة للرفاهية أداة للتعذيب، والوطن انقلب من حلم إلى كابوس.
فنحن نرى أن الدولة تلزم الناس باتباع القوانين ولو رغم إرادتهم وقد تضطر لإنزال أشد أنواع التعذيب بمن يرفض هذه القوانين، والتي في الأساس اخترعت من أجل رفاهيته!
لقد أضحت كلمة "قانون" بمثابة الغول الذي يخوف به الصغار كي يناموا. وباتت الدول تستغل القوانين لمحاصرة كل الأحرار والنيل ممن يواجه مخططاتها التخريبية.
بالقوانين يحصل السادة على الحق في استغلال المناجم واستغلال الأراضي والسيطرة على السوق، وبالقوانين تنتزع الملكيات من الناس وتهدم الأسواق، ويُطرد الباعة المتجولون من الشوارع، وتصادر بضاعتهم. بالقانون يحاكم الأبرياء، وبالقوانين يفلت الفاسدون.
يا من تؤمنون بالقوانين في بلاد الفوضى وتؤمنون بالانتخابات أنتم بحق مجانين.
يقول مالك بن نبي، في كتابه "شروط النهضة"، ص 27:
".. لو أن أوراق الحروز التي نبذها الشعب لم ترجع إليه باسم أوراق الانتخابات، ولو أن العقول التي تصدق بالمعجزات الكاذبة، لم تعد تصدق بمعجزات صناديق الانتخابات، ولو أن الزردة التي كانت تقام في ساحات المشايخ لم يعقبها الزردة التي تقام في ميدان السياسة..".
لو أن القوانين تتطبق لما وصلنا إلى أن يرمي الشباب بنفسه في عرض البحر. ونحن الذين حكمنا العالم لقرون طويلة وكنا نخصص الملايين لإطعام القطط والكلاب (وقف القطط والكلاب في الإمبراطورية العثمانية).
هل يحق للمضطهد أن يفرح؟
يعود "آدم" من العمل، تستقبله زوجته "ماندي"، تفتح له الباب، وكالعادة قبلة وحضن يومي، يسارع الصبية إلى أبيهم يتعلقون به، وينحني هو بكل ود، يتبادلون القبلات والأحضان، تأخذ الأم الأكياس من يدي زوجها، فكما وعدها أحضر كل ما دوناه في الورقة مساء البارحة، ديك رومي، شمبانيا فاخرة وغيرها من أغراض الاحتفال بالسنة الجديدة.
الكل هنا سعيد، وكيف لا وبلدهم يحتل الرتبة الأولى في سلم التنمية البشرية، وكيف لا والمدارس الخاصة لا وجود لها، وكيف لا والفساد السياسي غدا شيئاً أسطورياً، في فنلندا لا شيء ينغص على المرء معيشته اليومية، مرتبات ضخمة، والفواتير مناسبة وأسعار السلع منخفضة، والأمن منتشر، ولا أخبار سيئة ما عدا بعض الأحداث الهامشية.
ألا يحق لهؤلاء الاحتفال والسهر؟ ألا يحق لهم الرقص طرباً؟ بلى!!
في الجانب الآخر من الكوكب، يعود عمر من العمل منهكاً وعلى وجهه علامات التعب، فقد كان يومه شاقاً، وخاصة أن صاحب المحل عاد من العمرة، وبما أنه قد محا الذنوب السابقة، فقد جاء متعطشاً لذنوب جديدة، فكان أول ما بدأ به أن حسم من مرتب المسكين عمر عشرين جنيها ونصفاً، لقاء تهاونه في العمل، هذا ما قاله!
تستقبله زوجته برائحة البصل وكأنها طنجرة متنقلة تنتظر من يفتح غطاءها، أو يسكب على ذراعيها ماءً بارداً كي يهون عليها حملها. ودون سابق إنذار تبدأ بما تجيده كغيرها من نساء العالم الثالث، "التذمر"، فلا يكون من الرجل إلا أن ينسحب نحو غرفة الزوجية، لعله يفوز ببعض الهدوء، فلا يجده، وخاصة أنه فتح الفايس فوجد أن فلاناً قد سلب محله، وأن آخر مريض يحتاج لعملية جراحية ويطلب العون.
وحتى دون أن يسأل عن الصبية يلقي بنفسه فوق السرير، يسلم نفسه له، بل لعله يغوص فيه متخذاً إياه عالما دون عالمه. عمر ما هو إلا صورة رمزية عن جل سكان العالم الثالث، فهل يحق لهؤلاء أن يحتفلوا؟
بعيداً عن أوامر الدين الواضحة؟ هل يحق لمن يعيشون عيشة كهذه أن يتفاءلوا؟ لا، هذا هو الجواب المنطقي، لا يجب عليهم أن يتفاءلوا. لكنهم متفائلون بأن معجزة ما ستنقذهم!
فما الذي يجعل شعوب العالم الثالث تتفاءل مع كل ما يحدث؟
إن هذا السؤال يصيب المرء باضطراب وجودي، فلا يدري أهو في كابوس أم أن ما يراه واقع لا مفر منه؟
نظام التفاؤل
"البانغلوسية" أو التفاؤلية، فلسفة تؤمن بأن كل شيء يسير نحو الأفضل، نحو أفضل العوالم الممكنة، وهذا للأسف ما تؤمن به الشعوب العربية. وهذا الذي يغرس في الأطفال منذ نعومة أظافرهم، فالطفل يستقبل الحياة وكأنها جنة، فيتربى على التفاؤل والأحلام الوردية والدببة البيضاء الجميلة، لكنه سرعان ما يكتشف العكس. لهذا يخبرني فريديرك نيتشه فيقول: "علينا أن نخبر الأطفال بأن الحياة قاسية"، كي لا يقعوا في فخها، وكي لا يصيبهم اضطراب وجودي، وكي لا تتشوه ملكتهم في الحكم والذوق.
عندما ينجح أي نظام في غرس الفلسفة التفاؤلية في المواطنين، فآنذاك يسهل التلاعب بهم، فمشروع اقتصادي لسنة 2687 ميلادية يشعر شخصاً في سنة 2020 بالتفاؤل، وتسمعه يقول: "سنصبح مثل اليابان في سنة 2687م"، لكن المسكين لم يفكر في إمكانية انفجار هذا الكوكب بسبب كمية الغباء والحُمق، ولا فكر في أن السنة المنشودة تبعد عنه مقدار ستة أجيال. إنه غير مدرك لما يدور من حوله، فهو تحت تأثير غازات التفاؤل الذي تبثها قنوات النظام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.