بين الموقف الحقوقي والتحرك الخارجي، تحاول مصر رسم خطوات جديدة لمشهد بات مربكاً للبعض، واضحاً للبعض الآخر. والسؤال الذي بات يطرحه البعض الأول: هل الخطوات التي تتخذها القاهرة هي إعادة تموضع له أم تغير استراتيجي؟
لتأتي الإجابة من البعض الآخر سريعاً، ونحن في القلب منهم؛ بل هو إعادة تموضع فقط ولا ينبغي أن تنطلي على أحد، ولكي يتحول لتغير استراتيجي يحتاج لبعض الخطوات الأكثر جدية من النافذين الجادين في مؤسسات صنع القرار بمصر.
المشهد الحقوقي:
على ما يبدو، فإننا نشاهد الآن عملية من عمليات إعادة التموضع لدى مصر فيما يخص المشهد الحقوقي هناك، وهو الأمر الذي أكدنا على أنه سيكون وسيلة من وسائل تعامل النظام مع المطالب المتوقعة من الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة بايدن.
ومشاهد إعادة التموضع تلك تظهر بشكل واضح في التحركات التي تمت خلال شهر أبريل/نيسان الماضي، والتي كان أبرزها مساعي اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان، التي ترأسها وزارة الخارجية المصرية، لوضع استراتيجية وطنية لتعزيز حالة حقوق الإنسان بمصر وفقاً لالتزاماتها الدولية والحقوقية، وبالفعل عقد مجلس النواب المصري اجتماعاً مؤخراً لمناقشة تلك الاستراتيجية.
وفي هذا الإطار أيضاً، وضعت القاهرة عدداً من الأسماء المطلوبة حقوقياً في مسار إخلاء السبيل، خاصة من الصحفيين، وهو ما تم بوضوح قبل انتخابات مجلس نقابة الصحفيين الأخيرة أو بعدها، مثل حسن القباني، وخالد داود، ومجدي حسين، وحسام الصياد، وسولافة مجدي.
كما أرسل النظام المصري رسالة أخرى ذات دلالة قبيل بدء العام الجاري، وذلك باستبعاده 20 منظمة مجتمع مدني من ملف القضية رقم 173 لسنة 2011، ثم تلا ذلك صدور أمر قضائي في مايو/أيار الجاري بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضد 18 منظمة وجمعية وكياناً مجتمعاً مدنياً.
المشهد الخارجي:
لا يمكن أبداً تحييد التغير الواضح في السياسة الخارجية المصرية في التعامل مع ملف الحرب على غزة والعدوان الصهيوني على القدس، وما حدث في عدواني 2014 و2021 على الأراضي المحتلة؛ حيث ظهر الموقف المصري الرسمي الأخير متناقضاً ومحيراً للبعض، ولكنه في حقيقة الأمر هو إعادة تموضع آخر.
ففي 2014، لم يلبّ تدخل مصر شروط المقاومة والشعب الفلسطيني، فعلى سبيل المثال، رفضت حركة "الجهاد الإسلامي" المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار واعتبرت أنها "لا تلبي شروط المقاومة ولا حاجات الشعب الفلسطيني".
ولكن في 2021، أدت تحركات مصر الرسمية والشعبية إلى توجيه رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، الشكر لمصر خلال مؤتمر لتأييد الشعب الفلسطيني في الدوحة، بجانب تنسيق وتواصل غير معلن تحت مظلة الانحياز للشعب الفلسطيني.
وعلى المستوى الإعلامي، هذه المرة كانت الخطوط الخضراء الرسمية طاقة الأمل لصحفيين بمصر عانوا قيوداً كثيرة في النشر، فبدت وسائل الإعلام الرسمية بجانب وسائل الإعلام الشعبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي يعملان معاً كمنصة داعمة بشكل واضح للقضية الفلسطينة، وفي هذا الإطار لا نستغرب التصعيد اللفظي والخطاب الناري للأزهر الشريف ورجاله (خطاب شيخ الأزهر، د.أحمد الطيب، ومعه خطاب د.أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالجامع الأزهر).
الهدف والمسار:
على ما يبدو فإن الغرض الأساسي من إعادة التموضع هذه التي يمارسها النظام المصري هو قيامه بالاستغلال الأمثل للملف الحقوقي وملف القضية الفلسطينية مقابل تخفيف الضغوط التي تمارس عليه دولياً، خاصة من البيت الأبيض، مع سعيه لإيجاد شرعية أخلاقية له في ظل انتهاكاته المستمرة للحقوق، وكذلك كسب أرضية عربية وإسلامية في هذا التوقيت بالذات الذي تعاني مصر الرسمية من حرج شديد بسبب إخفاقاتها الواضحة في ملف سد النهضة الإثيوبي.
لذا فإنه رغم كل تلك الخطوات الإيجابية من النظام المصري، فإنه لا يمكن التعويل عليها، وذلك لاعتبارها "متغيرات وقتية" فقط، وتعديل للمشهد القمعي والوجه القبيح لذلك النظام، خصوصاً أنه وبالتزامن مع تلك الخطوات لم يتخل النظام عن تحركاته القمعية المتزايدة والمستمرة، مع استمرار الاعتقالات والاختفاء القسري وحبس عدد من النشطاء الحقوقيين والرموز السياسية، مثل عبد المنعم أبوالفتوح، وباتريك جورج، وعلاء عبدالفتاح، ومحمد الباقر، وعزت غنيم، وهدى عبدالمنعم، وعدم تصفير السجون أو تفعيل مادة العدالة الانتقالية الموجودة في الدستور المصري، مع استمرار الإعدامات خارج إطار القانون.
وفي آخر تقاريرنا في "كوميتي فور جستس"، الذي حمل عنوان "دولة الاستثناء"، كان هناك رصد دقيق للانتهاكات داخل مقار الاحتجاز بمصر للفترة من يناير/كانون الثاني إلى مارس/آذار 2021، والمناخ المظلم الذي يخيم على حقوق الإنسان عامة بالبلاد، الذي بدأ في توجيه أقوى هجمة على المجتمع المدني المصري؛ والتي تتمثل في إصدار اللائحة الجديدة لقانون الجمعيات.
وبحسب التقرير، تم رصد 1962 انتهاكاً، تصدرتها انتهاكات الحرمان من الحرية تعسفياً – بنحو 59% (1166/1962)، تلتها الانتهاكات المرصودة ضمن الاختفاء القسري وسوء أوضاع الاحتجاز بنسبة 17% تقريباً لكل منها (336 و335 انتهاكاً على التوالي)، ثم انتهاكات التعذيب بنسبة 5.5% (108/1962)، وانتهاكات الوفاة في مقار الاحتجاز بنسبة 0.9% (18/1962).
ووفق فريقنا، تم توثيق 283 انتهاكاً، توزعت بين سوء أوضاع الاحتجاز بنسبة 41.6% (118/283)، تليها بنسبة 19.7% الانتهاكات الموثقة ضمن كل من الحرمان من الحرية تعسفياً والاختفاء القسري (بواقع 56 انتهاكاً في كل تصنيف)، ثم التعذيب بنسبة 18% (52 انتهاكاً) وحالة موثقة ضمن الوفاة في مقار الاحتجاز خلال فترة التقرير.
وبعد كل ما مضى، يمكننا أن نقول بكل أريحية وصدق إنه لا يمكن التعويل على إجراء تكتيكي من قبل النظام المصري فيما يخص الملف الحقوقي، ولا يجب الانزلاق إلى "فخ القبول" الذي ينصب مع كل تقدم محمود ولا شك في الملف الخارجي في دعم القضية الفلسطينية على التحديد، دون أن يحدث تغيّر حقيقي في عقلية النظام واستراتيجيته، وهو ما يتطلب وقفة جادة من دولاب العمل في الدولة العميقة للإجابة على السؤال: هل أنتم جادون في قراءة التاريخ كي تتخذوا قرارات استراتيجية في أوقات مناسبة، نرى نحن أن وقتها الآن، أم أنتم مستمرون في الخداع والإجراءات التكتيكية دون نظر لحتمية انتهاء النظم القمعية؟
وحتى يجيب "الأخ الأكبر" في دولاب الدولة العميقة بمصر على هذا السؤال بتجرد ووطنية، فإن الفاعلين في مكونات الوطن والدولة والأصدقاء في الإدارة الأمريكية، والرفاق في المنظمات الحقوقية والقانونية عليهم أن يواصلوا جهودهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الجسد المريض، ومقاومة فيروس الاستبداد الذي ينهش جسد دولتنا المصرية بضراوة تفوق أضرار "كوفيد 19".
وفي هذا الإطار لدى "الأخ الأكبر" خطوات كثيرة ليبرهن على مصداقيته، ومنها إلغاء العمل بقانون الطوارئ وكافة القرارات الصادرة بموجبه وبالتزامن معه، مع تطبيق البدائل المتاحة في قانون العقوبات، وكذلك تطبيق المواد 14 و15 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، المختصة بالحق في المحاكمة العلنية العادلة، وأيضاً حظر محاكمة الأفراد مجدداً على تهم تمت تبرئتهم منها أو انقضت فترة العقوبة عليها لمنع ظاهرة "تدوير الاعتقال"، وبعبارة أدق "تصفير السجون"، نحو العمل لمرحلة بيضاء جديدة قادمة، ولا شك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.