قد تستطيع في السياسة أن تكون القوات اللبنانية الحليف الأقرب إلى السعودية، لكن لا تستطيع أن تكون بديل تيار المستقبل في الطائفة السنية.
لبنان المتجذر بالعلاقة بين الطوائف والرعاية الدولية، متأسس على مجموعة من الأحداث التاريخية التي تحكم تلك العلاقة، على سبيل المثال، عندما أراد الإنجليز، في الصراع مع الفرنسيين بعد الثورة الصناعية في أوروبا، رعاية طائفة في لبنان، كانت الطائفة المارونية هي الهدف الأول لهم، إلا أن الاختلاف الجذري بين البروتستانت والموارنة جعل مهمتهم مستحيلة، فكانت النتيجة طرد وحرق أتباع البروتستانت في جبل لبنان من قِبل الموارنة، ليتحول الإنجليز إلى رعاية الدروز.
تاريخياً، الصراع الطائفي الأبرز على الحكم في لبنان هو بين السنة والموارنة، على اعتبار أن جبل لبنان بجباله الوعرة من حيث الجغرافيا كان ضئيل الحجم مقارنة بالبحر السني، فيما مدن السنة الرئيسية حيث مارس السنّة الحكم، كانت خارج جغرافيا الجبل، لكن بعد إعلان لبنان الكبير أصبح السنة مكوناً رئيسياً في ديموغرافية البلاد مع الموارنة، لذلك كان من الطبيعي أن تتحول علاقتهم إلى صراع على الحكم.
عندما هدأت عاصفة غبار البناء سنة ١٩٢٠ وأرخى النظام اللبناني بثقله معلناً ولادة دولة لبنان، تنفس الإكليروس الماروني في لبنان الصعداء، جولات مبعوثيه المكوكية بين الفاتيكان وباريس والديمان أثمرت في النهاية خاتمة كما رسموها، دولة مستقلة بأكثرية مسيحية مارونية، لديها القدرة على العيش والتنفس من خلال سهول البقاع والشمال والجنوب وبحر يبعد عنهم كابوس المجاعة.
كان من الطبيعي أن يحصد الموارنة ما زرعوا، وأن يعملوا على تحصيل انتصارهم الدولي، بترجمة حقيقية داخل النظام، هذه الترجمة التي ستصطدم بالتنوع الطائفي الذي يتكون منه لبنان، فيتعرضون للصدمة الأولى بأن يكون منصب رئاسة الجمهورية للروم بدلاً منهم وبدعم من الفرنسيين-الدولة الراعية، الذين أرادوا تنفيس الاحتقان الطائفي ضد الموارنة، أقله في الساحة المسيحية، وبذلك يضمنون هدوءاً للدولة المنتدبة مع تأزم الأوضاع الأمنية في سوريا، الأمر الذي سيدفع البراغماتية المارونية إلى تثبيت حصولها على المراكز الحساسة في مفاصل الدولة (رئاسة الجمهورية، قيادة الجيش، حاكم مصرف لبنان، الوزارات الحساسة، مديرون عموم…)، على اعتبار أن السيطرة عليها تحمي رؤيتهم من جهة، وبالمقابل تشكل عمقاً استراتيجياً للوقوف ضد أي أفكار تصهرهم في البحر الإسلامي-العربي.
عقدة الأكثريات والأقليات
شكلت الديموغرافية المارونية الحجة الأبرز في أحقيتهم بترؤس الحكم، هذه الديموغرافية التي سيخسرونها تحت حد سيف الهجرة من جهة، ومن جهة أخرى من التهجيرات القسرية التي تعرضوا لها في الحروب والانقسامات الداخلية.
في المقابل، شكلت هذه الخسارة الديموغرافية المدخل الرئيسي للمسلمين للوصول الحقيقي للمشاركة في الحكم بعد أن لعبوا لسنوات دوراً هامشياً، فكانت مرحلة الانتقال من المارونية السياسية التي استمرت من سنة ١٩٤٣ إلى سنة ١٩٧٤ لتدخل الدولة في مخاض تغيير استمر من سنة ١٩٧٥ حتى توقيع اتفاق الطائف سنة ١٩٨٩، ونتج عنه تغير في توازن السلطة بخسارة صلاحيات أعلى مركز ماروني لمصلحة الأكثرية السنية الديموغرافية المستجدة، مكنتها من وراثة المارونية السياسية.
تاريخياً، كانت الأكثرية الإسلامية رافضة لفكرة الدولة المستقلة، وقد قاد السنة الموقف الإسلامي في لبنان، معلنين في مؤتمراتهم ومظاهراتهم التي جابت الساحل اللبناني رفضاً لفكرة الدولة المستقلة، شعر السنة بأن ولادة الكيان تهدد بانفصالهم عن وعيهم التاريخي لدمشق عاصمة الأمويين ولبغداد عاصمة العباسيين من جهة، ومن جهة أخرى كان السنة بأغلبيتهم تجاراً تربطهم علاقات اقتصادية مع الداخل السوري، وفي الوقت ذاته، لم يستسيغوا فكرة تحولهم من أكثرية عددية إلى أقلية تشارك فسيفساء الأقليات الأخرى في الشرق.
السنة وشعور الاستضعاف في الأرض
تولد للسنة الشعور بالظلم تحت حكم المارونية السياسية، وبأن امتدادهم العروبي مهدد، بعد صدور مجموعة من القوانين التي استهدفتهم، وأنهم على الرغم من حصولهم على رئاسة مجلس الوزراء فإنهم بعيدون عن التأثير الفعلي في الدولة، فيتحول أعلى مركز سني إلى دور هامشي. هذا الأمر لن يستمر بعد ١٩٧٥، فالعامل الديموغرافي سيخسره الموارنة لمصلحة السنة، في ظل بزوغ فجر البترول والظهور الإقليمي المؤثر للمملكة العربية السعودية، التي ستتقاطع مصالحها السياسية مع المصالح الاقتصادية لكل من الأمريكيين والفرنسيين، كانت كل الظروف مهيأة لعصر السنية السياسية.
يقع السنة في لبنان تحت تأثير ثلاث من قوى الجذب الإقليمية هي: تركيا، ومصر، والسعودية.
ففيما ارتبط السنة بالأتراك عبر الوجود العثماني التاريخي في لبنان، على اعتبار أنهم كانوا جزءاً من أهل الحكم، واعتبروا العثمانيين امتداداً للحكم الإسلامي-الخلافة، أضف إليه أن الكثير من جذور العائلات اللبنانية السنية تعود إلى التركية.
أما التأثير المصري فيرتبط بدور مصر التاريخي، من حيث موقعها الجيوسياسي والديموغرافي، وتأثر سُنة لبنان بتياراتها الإقليمية التي ضربت لبنان عدة مرات، أبرزها الناصرية، فكانت الأغلبية السنية في لبنان تقع تحت التأثير السياسي لجمال عبدالناصر، وما كانت أحداث 1958 إلا انعكاساً لتلك الكيمياء.
كان دخول المملكة العربية السعودية السياسي كدولة راعية طوق النجاة للسنة، فعملياً على الأرض تقاتلت الميليشيات الطائفية للحصول على حصص أكبر بعدما ألغوا ميليشيات السنة، إلا أن الحضور السعودي القوي ملأ الفراغ، وترجم بزعامة سوف تشق طريقها مستفيدة من دهاء شخصيته، والدعم السعودي، ليكون عنوان عصر السنية السياسية تحت عنوان اتفاق الطائف.
يقف السنة اليوم أمام مفترق طرق، يعلمون أن استهداف اتفاق الطائف يعني استهدافهم سياسياً، يعيشون حالة من الضياع، نتيجة طبيعية لانعكاس أداء تيار المستقبل كزعامة سياسية عليهم سياسياً وتنظيمياً، علماً أنهم يدركون أن الرئيس الحريري قدم مصلحتهم على شعبيته في عدة محطات، إلا أن الأحداث كانت أكبر من الفوز بمعركتين معاً؛ السعودية التي ترتبط بالوجدان السني، لا زالت موجودة بقوتها حتى ولو انكفأت. والطيف التركي يحضر على السواحل والموانئ، يدرك جميع التفاصيل في هذا البلد.
أثبتت التجربة أنه لا يمكن اختزال السنة ضمن حزب أو شخصية أو عمامة، السنة بأكثريتهم عبارة عن رأي عام صامد، رأي عام يراقب من خلف الشاشات، يستمع إلى الآراء، ويبني على المواقف، ثم يحاسب في صناديق الانتخابات، فإن نزلوا إلى الشارع جعلوا من 14 آذار 2005 مشهداً تاريخياً، وإن اعتزلوا التصويت كان صوتهم الأعلى في التعبير عن رفضهم للأداء السياسي لزعامتهم، وإن اقترعوا أعطوا الزعامة السنية الثقة والحق بتمثيلهم، وهم لم يفقدوا حتى اليوم ارتباطهم بسنة المنطقة، ففيما رفع الرئيس سعد الحريري شعار "لبنان أولاً" لسنوات عديدة، محاولاً عزل سنة لبنان عن الصراع السني-الشيعي في المنطقة، إلا أن الأحداث أثبتت في عدة محطات أنه شعار ليس أكثر، فمع أحداث الثورة السورية، مالت الأكثرية السنية في لبنان صوبها، واحتضنت مدنهم وقراهم النازحين، وشاركوا في دعم الثورة بكل السبل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، حتى الرئيس الحريري نفسه جاهر بدعم الثورة.
وفي أحداث غزة الأخيرة، مال السنة لمناصرة الفلسطينيين، وقد ظهر الانقسام الحقيقي لشعارات 17 تشرين، التي اعتمدت على زخم الشارع السني (بيروت – طرابلس عروس الثورة، البقاع الأوسط والغربي..) بينهم وبين الشارع السني، فقد جاهر الكثير من الشخصيات البارزة في ثورة 17 تشرين بالبقاء على حياد في القضية الفلسطينية، الأمر الذي يفتح مجموعة من الأسئلة: أين السنة اليوم بين تيار المستقبل و17 تشرين؟ وأين السنة في لبنان في حال عادت العلاقات بين السعودية والنظام السوري؟ وكيف يستأثر السنة والموارنة بسقوط اتفاق الطائف، مع حاجة حزب الله لترجمة فائض القوة عنده في النظام؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.