ما كان يُتداول بين بعض القيادات تلميحات كشف عنها موقع بريطاني مباشرة، إذ كشف وثيقة تتضمن ما يسمى بـ"انقلاب دستوري أو الديكتاتورية الدستورية"، كانت موجهة لرئيسة ديوان رئيس الجمهورية نادية عكاشة، تتضمن خطة تفصيلية لهذا الانقلاب.
خطة سبق أن تحدث عنها بعض أنصار الرئيس من سياسيين وشخصيات عامة باقتضاب ودون تفصيل، الهدف منها الانقضاض على الحكم وإقصاء الأحزاب والبرلمان من الساحة السياسية وتلفيق التهم لهم، مستغلين الوضع الحرج للبلاد، فهل لهم أن يفعلوا ذلك حقاً؟
انقلاب دستوري
يعود تاريخ الوثيقة المسربة إلى الـ13 من مايو/أيار 2021، وتتحدث عن تدبير خطة لـ"ديكتاتورية دستورية" في تونس، ويقول موقع ميدل إيست آي (Middle East Eye) البريطاني إنها مسربة من مكتب مديرة الديوان الرئاسي التونسي نادية عكاشة.
تتمثل الخطة المذكورة في دعوة خصوم الرئيس السياسيين -من بينهم رئيس الوزراء هشام المشيشي ورئيس البرلمان زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي- إلى القصر الرئاسي والإعلان عن الخطة بوجودهم، مع عدم السماح لهم بالمغادرة، وفي الوقت ذاته سيتم إلقاء القبض على عدد من كبار السياسيين الآخرين ورجال الأعمال، وتوضح الوثيقة المسربة كيف سيفعّل الرئيس الفصل 80 من الدستور، الذي يسمح له بالاستيلاء على السلطات في حالة الطوارئ الوطنية.
بحسب الوثيقة لن يُسمح للمشيشي والغنوشي بمغادرة القصر الرئاسي الذي سيتم إدخاله في حالة عزلة كاملة عن الخارج، وفي تلك الأثناء سيوجه قيس سعيد خطاباً تلفزيونياً إلى الأمة لإعلان انقلابه، في الأثناء يتم تعيين اللواء خالد اليحياوي وزيراً للداخلية بالإنابة، ونشر القوات المسلحة على مداخل المدن والمؤسسات والمرافق الحيوية.
يذكر أنه قبل شهر من الآن تم تكريم خالد اليحياوي، الذي يشغل منصب مدير الأمن الرئاسي، ومنحه وسام الجمهورية من الصنف الثاني، وهو ما أثار حفيظة العديد من التونسيين، خاصة أنه جاء في سياق سعي الرئيس للاستحواذ على السلطة والتقرب من القيادات الأمنية، ومخيلة التونسيين لم تغب عنها بعدُ اللحظة النوفمبرية التي بدأها بن علي بانقلاب، استعمل فيه مدير الأمن وآمر الحرس ومدير الأمن الرئاسي.
إلى جانب حجز رئيسي البرلمان والحكومة في القصر، سيتم وضع الأشخاص الرئيسيين تحت الإقامة الجبرية، ومنع أي برلماني مطلوب للمحاكم التونسية من مغادرة البلاد، وإعفاء جميع المنتمين إلى الأحزاب السياسية من مناصبهم في البلاد.
وللتقرب إلى الشعب، نصّت الوثيقة على أن يتم تعليق جميع مدفوعات الفواتير أو الكهرباء والمياه والهاتف والإنترنت والقروض المصرفية والضرائب لمدة 30 يوماً، وسيتم تخفيض أسعار السلع الأساسية والوقود بنسبة 20%.
من يقف وراء الخطة؟
هذه الوثيقة المسربة لم تحمل توقيع أي طرف، والظاهر أنها من إحدى المجموعات والشخصيات الداعمة للرئيس قيس سعيد، والساعية إلى الفوز ببعض الامتيازات إن تم العمل بالمخطط المطروح، فهي تدفع الرئيس قيس سعيد للعمل بمخططاتها.
لكن لمعرفة مروّجي هذه الوثيقة علينا الرجوع قليلاً إلى الوراء، فنفس هذه الأفكار طرحها في مرات سابقة بعض السياسيين، من ذلك القيادية بالتيار الديمقراطي (يسار اجتماعي) سامية عبو، فقد سبق أن دعت رئيس الجمهورية إلى تفعيل الفصل 80 من دستور 2014، وبررت دعوتها بأن تونس لم تعد تحتمل أي مناورات سياسية حزبية جديدة وتعطيل الاقتصاد الذي وصفته بالكارثي.
قبلها، حثّ زوجها محمد عبو -كان يشغل منصب الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي- الرئيس سعيد على التوجه نحو تأويل فصول الدستور وفق ما يراه مناسباً، ومنها تفعيل الفصل 80، داعياً إياه إلى قطع قنوات الحوار مع كل من حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة.
كما طالب في تدوينة له "بحل البرلمان واستقالة رئيس الحكومة ونشر قوات الجيش بطلب من القائد الأعلى للقوات المسلحة في المدن وكل مناطق الإنتاج، واستنفار قوات الأمن لحفظ النظام ومكافحة الجريمة"، إضافة إلى "تطبيق الأمر عدد 50 لسنة 1978، بوضع السياسيين الذين توافرت في شأنهم معطيات كافية عن فساد واستقواء بالسلطة لحماية أنفسهم أو علاقات تمويل من الخارج تحت الإقامة الجبرية".
إلى جانب حجز رئيسي البرلمان والحكومة في القصر، سيتم وضع الأشخاص الرئيسيين تحت الإقامة الجبرية، ومنع أي برلماني مطلوب للمحاكم التونسية من مغادرة البلاد، وإعفاء جميع المنتمين إلى الأحزاب السياسية من مناصبهم في البلاد.
وللتقرب إلى الشعب، نصت الوثيقة على أن يتم تعليق جميع مدفوعات الفواتير أو الكهرباء والمياه والهاتف والإنترنت والقروض المصرفية والضرائب لمدة 30 يوماً، وسيتم تخفيض أسعار السلع الأساسية والوقود بنسبة 20%.
أيضاً سبق أن دعا رئيس لجنة المالية بالبرلمان النائب عن حركة الشعب هيكل المكي، رئيس البلاد إلى التوجه نحو تفعيل هذا الفصل الدستوري، كون البلاد أصبحت تواجه خطراً داهماً، والحكومة باتت عاجزةً عن احتواء موجة الاحتقان.
لا ننسى كذلك قيادات الجبهة الشعبية (ائتلاف يساري)، التي دعت لنفس الأمر أيضاً، فقد سبق أن دعا القيادي في الجبهة الشعبية والنائب في البرلمان التونسي منجي الرحوي رئيس الجمهورية إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور، بعد تعطل أعمال البرلمان.
نستخلص من هنا أن الأطراف الداعية لتفعيل هذا الفصل الدستوري ينتمون إلى حركة الشعب والتيار الديمقراطي والجبهة الشعبية، وجميع هذه التيارات السياسية تعمل على إسقاط حكومة هشام المشيشي وتعطيل عمل البرلمان مهما كلفها الأمر، لذلك تضغط على قيس سعيد حتى يفعّل هذا الفصل بحجة إنقاذ تونس من منظومة الحكم الحاليّة.
جدير بالذكر أن أصوات هذه الأطراف خفتت بخصوص الحوار الوطني الذي اقترحه الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، نهاية السنة الماضية، على رئيس الدولة، إذ لم تعد تتحدث عنه وإن تحدثت فتربطه بشروط مجحفة.
بغض النظر عن صحة الوثيقة المسربة من عدمها، نتبين مما سبق أن العديد من السياسيين الموالين لقيس سعيد يرغبون في الانقلاب الناعم على البرلمان والحكومة، وبالتالي على اختيارات الشعب، واستغلال الحالة الاستثنائية لتمرير إجراءات عجزوا عنها في الحالة الطبيعية.
التماشي مع مساعي الرئيس
كما سبق أن قلنا في بداية التقرير إن الوثيقة المسربة لم تبين موقف الرئيس ولا علاقته بها، لكن انطلاقاً من تصريحاته السابقة وتحركاته، نرى أن هذه الوثيقة وأغلب ما تتضمنه يتماشى مع مساعيه، فهو يعمل منذ فترة على الإطاحة بحكومة المشيشي والتقليل من شأن برلمان البلاد.
ويرفض الرئيس سعيد منذ أشهر أن يستقبل الوزراء الجدد لتأدية اليمين الدستورية حتى يبدأوا في عملهم وينظروا في مشاغل الناس ومطالبهم قصد معالجتها، كما أنه دائماً ما يشكك في جدوى عمل مجلس نواب الشعب، ويعمل على ترذيله بالاستعانة بالنواب الداعمين له.
ظهرت محاولات قيس سعيد للاستحواذ على كل صلاحيات الحكم في تونس منذ أول يوم جلس فيه على كرسي الحكم، فلا يفوّت فرصة إلا ويؤكد أنه قائد كل شيء، والممسك بزمام الأمور في البلاد، على عكس ما يتضمنه الدستور.
وغالباً ما يسعى الرئيس سعيد إلى السيطرة على الجهات الأمنية، من خلال تأويله الفردي للدستور، ومنح الرتب للقيادات الأمنية، إلى جانب محاولته إقحام الجيش الوطني في الصراعات السياسية ومدحه مقابل الإمعان في ترذيل الأحزاب السياسية والتشكيك في نزاهتها وجدوى وجودها، وهو ما لم يفعله أي رئيس تونسي ورئيس حكومة منذ سقوط نظام بن علي، في يناير/كانون الثاني 2011.
وغالباً ما يبدو الرئيس سعيد في خطاباته وتحركاته طامعاً في السلطة ومستأثراً بها، زاهداً في الثورة التونسية وما أفرزته، بدءاً بدستور 2014، حتى إنه لم يحتفل بعيد الثورة مع التونسيين، ولا بعيد الاستقلال ولا الجمهورية دون توضيح سبب ذلك.
هل يجب الخشية من انقلاب؟
السؤال المطروح الآن وفق المحلل السياسي سعيد عطية، هل يمكن أن ينجح انقلاب في تونس؟ يبدأ عطية في حديثه لنون بوست باستعراض الأدوات التي تمكن من إنجاح انقلاب ما في بلد ما، فيفترض الانقلاب التحكم الكلي في القوات العسكرية، فضلاً عن التحكم الكلي في القوات الأمنية، إلى جانب القدرة الكلية على توجيه الإعلام وغلق القنوات المضادة بسرعة البرق، وتهيئة مناخ شعبي للقبول بالانقلاب.
يتابع محدثنا تساؤلاته: "هل هناك طرف في تونس اليوم بإمكانه التحكم في كل الأدوات المذكورة؟" طبعاً لا، وفق سعيد عطية، فلعل أبرز حسنات دستور 2014 توزيعه للسلطات بشكل يستحيل معه سيطرة طرف واحد على مختلف السلطات، ما يجعل مسألة الانقلاب صعبة، بل شبه مستحيلة.
إلى جانب ذلك، يُعرف عن الجيش التونسي دعمه للثورة، إذ يعد الجيش الوطني التونسي ذو العقيدة الجمهورية الاستثناء العربي الوحيد، بانحيازه لإرادة الشعب والتزامه الثكنات وتعففه عن السلطة، رغم أنها كانت ملقاة أمامه عشية 14 يناير/كانون الثاني 2011.
كما أن الأمن التونسي بعد الثورة أصبح أمناً جمهورياً يصعب التحكم فيه لغايات سياسية، فرغم محاولات بعض السياسيين سحب القوات الأمنية لصفهم ومحاولة استغلالهم، فقد عجزوا في أغلب محاولاتهم المتكررة، فالأمن التونسي لا يبغي العودة إلى السنوات التي كان فيها مجرد عصا للسلطة.
لكن المناخ الاجتماعي وتدهور مستوى المعيشة وغلاء الأسعار وارتفاع معدلات البطالة تخلق يوماً بعد يوم نفوراً من الحياة السياسية الكلاسيكية، المبنية على الأحزاب، وتُقبل على مشاريع الخلاص الفردي، وتميل لفكرة "الزعيم الملهم"، وفق سعيد عطية.
ما يعني أن غياب الآليات التقنية التنفيذية للقيام بانقلاب لأي طرف سياسي لا يعني ضرورة انتهاء الخطر، فالقابلية الشعبية بالانقلاب كحل للخلاص من الأزمة الاقتصادية الخانقة أصبحت تزداد يوماً بعد يوم، لذلك على الحكومة أن تعي ذلك جيداً، وتعمل على تفاديه والنظر لمشاكل التونسيين.
بالمحصلة، فإن بعض السياسيين الذين أقسموا على العمل وفق دستور البلاد والحفاظ على مصلحة البلاد وحماية مصالحها يوم دخلوا البرلمان أو اختاروا العمل السياسي، يسعون للانقلاب على مؤسسات الحكم بطرق شتى، لكن ذلك لن يكون سهلاً، فالتونسيون لن يقبلوا العودة إلى ما قبل يناير/كانون الثاني 2011، مهما كلفهم الأمر.
- هذا المقال منشور في موقع نون بوست
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.