من يتتبع التصريحات الرسمية الصادرة عن الحكومة المصرية منذ بداية أزمة سد النهضة لا يملك إلا أن تزداد حيرته مع كل تصريح جديد، إذ إن أغلب التصريحات يناقض بعضها بعضاً. ولأننا لا نريد مزيداً من "الولولة" على ما مضى بل حلاً عملياً عقلانياً وسريعاً، فهذه رؤية متواضعة لصناع القرار علها تفيد في منع الكارثة المتوقع حدوثها حال الملء الثاني الذي تصر عليه إثيوبيا في يوليو 2021 ولا تريد أن تتفاوض عليه.
هل يجدي الحل العسكري؟
منذ بداية أزمة سد النهضة، تعالت الأصوات بضرورة ضرب الطيران المصري السد قبل بنائه، متجاهلة أن إثيوبيا دولة لها سيادة وعلاقات دبلوماسية مع كثير من الدول، وأن السد تموله دول كبرى مستفيدة مثل الصين وشركات وبنوك كبرى، وأن ضرب السد سيضر بعلاقة مصر مع هذه الدول وسيضع الجيش المصري موضع المعتدي، ومتجاهلة كذلك أن مرور الطيران المصري عبر السودان وجنوب السودان سيخلف حتماً عداوة بين هاتين الدولتين وإثيوبيا، وهو أمر لن تقبله أي من الدولتين بسهولة. ولا أظن أن من نادوا بضرورة ضرب السد قد فكروا مجرد تفكير في سيناريوهات فشل الضربة العسكرية لجسم السد أو احتمال إسقاط الطائرات المصرية؛ مما قد يدخلنا في حرب على غير أرضنا من أبجدياتها غطاء جوي وبحري وبري لقواتنا وتنسيق عسكري مع الدول المحيطة بإثيوبيا ضماناً لعدم تدخلها، ولا أظن أن مصر لها علاقات دبلوماسية قوية مع هذه الدول بدرجة تسمح لنا باستخدام أراضيها أو محيطها الجوي إن لزم الأمر.
أقول إنه لم يكن يلزمنا التلويح بالحل العسكري قبل إجراء مناقشات جادة مع الجانب الإثيوبي والتأكد من نواياه أو نوايا من ينوب عنهم من قوى تريد تعطيش المصريين وضرب اقتصادهم في مقتل لنحدد الوسيلة الفضلى للتعامل مع إثيوبيا وثنيها عن البدء في السد من الأساس.
ولكن بما أننا تجاوزنا هذه المرحلة، وقد قارب السد على الاكتمال، واكتمل الملء الأول وقارب الملء الثاني على البدء في يوليو القادم، وبما إن المفاوضات مع إثيوبيا قد باءت بفشل ذريع لم يسبق له مثيل، وبما إن القوى السياسية الكبرى قد قررت ترك مصر تواجه مصيرها كما بدا من رسائل الرئيس الأمريكي عبر مندوبيه في الشرق الأوسط، معطياً بذلك ضوءاً أخضر لإثيوبيا لإكمال مهمة تعطيش مصر، وبما إن الحل العسكري مكلف وستكون له –إن تمَّ، برغم صعوبته- عواقب وخيمة، فماذا تبقى لمصر من حلول؟
الحلول الناعمة
من بين الحلول غير العسكرية التي يمكن لمصر أن تسعى لها ما يلي:
1. تجميد العلاقات الدبلوماسية مع كل الدول الممولة للسد واشتراط إعادة العلاقات كاملة معها بعد توقف هذه الدول عن تمويل السد تماماً، حتى وإن كانت بين هذه الدول ومصر علاقات جيدة أو تبادل تجاري على نطاق واسع؛ فالمياه هي الحياة، وحمايتها تتطلب الغالي والنفيس. وقد يبدو هذا التأكيد مناقضاً لما ذكرته سابقاً من ضرورة تجنب أي ضرر يقع على مصر نتيجة قيام الجيش المصري بضرب السد، غير أن الأمرين مختلفان: فالضرر المتوقع نتيجة ضرب السد لن يتعاطف معه أحد لأن مصر ستكون في موقف المعتدي، أما الخسائر المتوقعة نتيجة قطع العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول الممولة للسد فستكون –على الأرجح- حافزاً للاعتماد على الذات في التنمية التكنولوجية والاقتصادية لنثبث أننا في غنى عن الدول والشركات التي "تمسكنا من رقبتنا".
2. معاقبة كل البنوك والشركات الممولة للسد والتي تعمل في السوق المصرية، وذلك من خلال سحب تراخيصها أو فرض ضرائب إضافية عليها أو حرمانها من أية امتيازات تنعم بها أو تتساوى فيها مع غيرها، مع الإعلان عنها للشعب المصري حتى يعاملها الشعب بما تستحق.
3. البدء فوراً في مشروع قومي للتحول للري بنظام التنقيط، هذا المشروع المطلوب بقوة حتى وإن تم إيقاف السد. وللعلم، كانت لدى حكومة نظيف تصور عن هذا المشروع وما زلت أتذكر أحمد نظيف وهو على منصة مجلس الشعب يذكر أهمية هذا المشروع لأمن مصر الغذائي وأنه –حال اكتماله– سيوفر المليارات من الأمتار المعكبة من المياه كل سنة.
4. دراسة مشروع ربط نهر الكونغو بنهر النيل على وجه السرعة وتقرير إمكانية تنفيذه وتكلفته، حال الاتفاق مع جمهورية الكونغو على تنفيذه. يوفر هذا الربط ما يزيد على 110 مليارات متر مكعب من المياه، أي ضعف نصيب مصر من نهر النيل الآن، ويمكن استغلاله في زراعة أكثر من 80 مليون فدان.
5. إن لم يصلح أي من أو كل هذه الحلول فما من مانع من أن تدخل مصر إلى الجسد الإثيوبي من خلال مساهمة البنوك والشركات المصرية في مشروعات الكهرباء والاتصالات والزراعة والإنشاءات والتبادل التجاري حتى يتشكل داخل إثيوبيا لوبي مصري اقتصادي قوي يستطيع لعب دور فاعل في عدم مساس إثيوبيا بنصيب مصر من المياه مستقبلاً.
6. تسبق كل هذه الحلول ضرورة ضغط مصر في كل الاتجاهات، وخاصة اتجاه الاتحاد الإفريقي، للضغط على إثيوبيا لزيادة فترة سنوات الملء الثاني إلى أطول فترة ممكنة بحيث لا يقل نصيب مصر عما تستطيع بحيرة ناصر تعويضه عبر سنوات الملء، وهذا أضعف الإيمان.
بقى أن أنوه أن وقت الأزمات يستحق الوقوف مع القيادة التي تتفاوض رسمياً باسم الشعب، مهما كانت درجة الاختلاف معها أو على سياساتها، وليست هناك أزمة في مصر أخطر من هذا السد المشؤوم. ولذا، يمكن للمصريين التحرك بشكل غير رسمي وفاعل عبر منصات التواصل والهاشتاغات التي تنبه المجتمع الدولي للنظر في كارثة السد وآثاره الخطيرة على مصر والمصريين، وكذا تمهد الأرضية أمام الدولة المصرية للقيام بالإجراءات المقترحة أعلاه دون أن يلومها أحد ولتظهر بمظهر الدولة التي تستجيب لرغبات شعبها، لا مظهر الدولة التي تنتقم. فهل نحن فاعلون؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.