عقب وقف إطلاق النار مباشرة خرج رئيس وزراء الكيان الصهيوني في مؤتمر صحفي زاعماً أن كيانه انتصر في الحرب الأخيرة، ودلَّل على ذلك بقوله إن جيشه دمر جزءاً كبيراً من البنية التحتية للمقاومة في غزة، بما في ذلك القوة الصاروخية والقوة البحرية وشبكة الأنفاق، لكن بالمقابل حققت المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها إنجازات نوعية تُبدد مزاعم نتنياهو بالانتصار.
تحديد توقيت المواجهة ونطاقها
ففي ظل مرور إسرائيل بفترة عدم استقرار سياسي -من أبرز ملامحها تكرار الانتخابات النيابية للمرة الرابعة خلال أقل من عامين، واستمرار الفشل رغم ذلك في تشكيل حكومة ائتلافية مستقرة، بالتزامن مع التعرض لأزمة اقتصادية على خلفية انتشار فيروس كورونا- حددت المقاومة لأول مرة لحظة بدء القتال ونطاقه، رداً على الاعتداءات الصهيونية بالقدس، وهو ما قوّض مشروع تفتيت القضية الفلسطينية لقضايا جزئية تتمحور حول حصار غزة، وتهويد القدس، والاستيطان في الضفة، ومسخ هوية العرب في الأراضي المحتلة عام 1948، فتوحد الفلسطينيون خلف قضية القدس بينما تعيش الجبهة الداخلية الإسرائيلية مرحلة تناحر داخلي غير مسبوقة.
وفي حين اعتاد الكيان الصهيوني في أغلب إن لم يكن كل حروبه تحديد نطاق المعركة، نجد أن المقاومة الفلسطينية لأول مرة هي التي تمتلك زمام المبادرة، وتحدد نطاق المعركة حينما استهدفت تجمعات الاحتلال في القدس بقصف صاروخي عقب استمراره في الاعتداء على سكان حي الشيخ جراح، ثم لاحقاً رسخت المقاومة معادلة قصف تل أبيب مقابل استهداف الأبراج السكنية المدنية في غزة، وهذا تطور نوعي لم تتمكن أي دولة عربية سابقاً من رسمه خلال حقبة الحروب العربية الإسرائيلية، حيث كانت العواصم والحواضر العربية تُستباح، في حين عاصمة الاحتلال تعيش في مأمن.
إعدام صفقة القرن، وترسيخ شرعية قيادة المقاومة
توهمت إدارة ترامب أن القضية الفلسطينية يمكن حلها بصفقات تجارية لا تعيد الحقوق لأهلها، وتماهت عدة دول عربية مع صفقة القرن، وانخرطت عدة حكومات في عمليات تطبيع متتالية، طمعاً في الدعم الإسرائيلي والأمريكي، ودون التفات لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني أو حركة المقدسات الإسلامية في القدس، وذلك في موجة خيانة علنية غير مسبوقة، راهنت على أن موجة الثورات المضادة كسرت ظهر المقاومة الفلسطينية والشعوب العربية، لكن الجولة الأخيرة من القتال قضت على صفقة القرن، وألحقتها بأخواتها، مثل اتفاقية أوسلو وأنابوليس وغيرهما، وبرهنت على أن القضية الفلسطينية مازالت تحتفظ بمركزيتها وحيويتها والتفاف الأمة حولها. بل تحول الرهان الإسرائيلي على التطبيع إلى خوف على تماسك الجبهة الداخلية الإسرائيلية عقب انتفاض العرب داخل أراضي 48، وهو ما عبرت عنه بجلاء التعليمات العسكرية الإسرائيلية الصادرة للجنود، بالسماح لهم بعدم ارتداء الملابس العسكرية بالداخل الإسرائيلي خلال تنقلهم للالتحاق بالوحدات العسكرية، خوفاً من استهدافهم على يد العرب. كذلك تعمق مأزق السلطة الفلسطينية التي بدت كحارس لأمن الاحتلال، وهو ما انعكس على تحرك الضفة الغربية مجدداً ضد الاحتلال، وصولاً لتنفيذ أحد عناصر أمن السلطة حادثاً هجومياً ضد حاجز للاحتلال بالضفة. ومن الناحية السياسية لم تُعر الدول المنخرطة في الوساطة لوقف القتال السلطة الفلسطينية اهتماماً يذكر، ما دفع القيادي الفتحاوي جبريل الرجوب للشكوى بأن قادة الدول العربية لم يتصلوا على رئيس السلطة محمود عباس، في حين توالت الاتصالات واللقاءات مع قادة فصائل المقاومة.
تراكم الإنجازات
المتتبع للأداء العسكري لفصائل المقاومة في حروب 2009 و2012، و2014، و2021 يجد أنه يتطور بشكل لافت على كافة الأصعدة، فمدى صواريخ المقاومة تزايد ليصل إلى 250 كم، ليشمل بذلك كافة تجمعات الاحتلال الجاثمة على ربوع فلسطين، كما ظهرت أسلحة نوعية مثل الغواصات المسيرة التي تبلغ زنتها التفجيرية 50 كم، فضلاً عن أنواع جديدة من الطائرات المسيرة. أما مستوى التجهيزات الدفاعية فقد جعل القيادة الإسرائيلية تعلن صراحة منذ بداية القتال أنها لا تنوي شن حملة برية في غزة، وهو ما يُعزى إلى التكلفة الباهظة التي يتوقع الاحتلال أن يتعرض لها في حال تفكيره في خوض تلك المغامرة.
كذلك شوهد تطور ملحوظ في إدارة الحرب الإعلامية والنفسية ضد العدو، وهو ما أربك المستوى السياسي في إسرائيل، الذي فوجئ بقدرات المقاومة الصاروخية وإدارتها للمعركة، وفقاً لما أقر به المحلل السياسي الإسرائيلي بن يشاري في صحيفة يديعوت أحرونوت. وبالمقابل، لم تتمكن قيادة الاحتلال من التأثير على الجمهور الفلسطيني الداعم للمقاومة، بل تعرضت حكومة نتنياهو لاتهامات من قبل الجمهور الإسرائيلي، بأنها أخطأت بضغطها غير المحسوب على الفلسطينيين، وانشغلت بالصراعات الحزبية وجهود التطبيع مع حكومات عربية غير ذات وزن في الملف الفلسطيني، ما أدى في النهاية لانفجار المشهد في وجهها.
المرحلة القادمة
فور إعلان وقف إطلاق النار صرح وزير الدفاع الإسرائيلي بأن حكومته لن تسمح بإعادة إعمار غزة دون حل مشكلة الجنود الإسرائيليين المفقودين منذ عدة سنوات في القطاع، كما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه سيدعم إعادة إعمار القطاع، مع حرصه على ألا يساهم ذلك في إعادة بناء حماس قدراتها العسكرية، في حين أعلن النظام المصري الذي يعاني في الأساس من مشاكل مالية كبيرة وديون باهظة عن تقديمه حزمة مساعدات لغزة بمبلغ 500 مليون دولار، مقرونة بتنفيذ عمليات إعادة الإعمار عبر شركات مصرية. وفور الإعلان عن المساعدات المصرية مجهولة المصدر سارع قائد الأمن الوقائي السابق في غزة محمد دحلان للترحيب بها.
تلك المواقف والتصريحات تشير إلى نية بعض القوى الدولية والإقليمية العمل على حرمان المقاومة من ثمار صمودها في المعركة الأخيرة، ومنعها من إعادة بناء قدراتها. وفي مواجهة ذلك يأتي دور الدول الداعمة للقضية الفلسطينية، عبر تعزيزها لعمليات إعادة الإعمار، والعمل على رفع أو على الأقل تخفيف الحصار عن غزة، كما يأتي دور الجمهور العريض للأمة بدعم أهلنا في فلسطين المحتلة بكافة أنواع الدعم المكنة، من أجل تعزيز قوة المقاومة استعداداً لجولات أخرى مستقبلية من الصراع آتية لا محالة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.