"أنا تأثرت بموت سمير غانم جداً.. كأنه واحد من عيلتي"
تكررت تلك الجملة تحديداً على لسان عدد غير قليل من أصدقائي ومعارفي الذين شعروا بصدمة شديدة عقب خبر وفاة الفنان المصري سمير غانم، كأن أحد أقاربهم قد توفي وليس رجلاً لم يحدث أن قابله أكثرهم وجهاً لوجه من قبل ولو لمرة واحدة، والدتي أيضاً تسمرت للحظات حين بلغها نبأ الوفاة، قبل أن تردد بحزن شديد وعين دامعة: "يا حبيبي الله يرحمه" كأن شقيقها هو من توفي!
سر الحزن
لماذا هذا الحزن الشديد، ولماذا أجهشت صديقاتي بهذا القدر من البكاء حين علمن الخبر، ربما كانت الإجابة في تلك الجملة التي كتبتها صديقتي عبر مجموعة الواتساب الخاصة بنا "أنا حاسة إن اللي كان بيضحكنا من قلبنا مات.. مين هايضحكنا تاني!"، المعنى ذاته كررته صديقة مقربة لي عبر صفحتها الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك حيث أعربت عن حزنها الشديد لفقد "سمورة"، على حد تعبيرها مؤكدة "حاسة إني فقدت جزء من طفولتي" .. فسر لي ذلك الكثير، قد ينسى المرء من أبكاه لكنه لا ينسى أبداً من أضحكه من قلبه.
في الواقع شعر الناس بالحزن على أنفسهم في المقام الأول، فقدان سمير غانم بمثابة فقد لجزء من الذاكرة الجمعية للشعب المصري والعربي، جزء أصيل وفقد لسعادة كانت ترتسم على الوجوه وفي أعماق القلوب بمجرد ظهوره، هو كان يعلم ذلك جيداً، حتى إنه اعتبر إضحاك الناس باباً من أبواب عمل الخير ولأن الخير لا يبلى أبداً بكاه الجميع.
لن أنسى تلك المرة حين رأيت سمير يسير ناحية مبنى الإذاعة والتلفزيون، كانت مشيته لرجل عجوز جداً تزامن ذلك مع عرض إحدى مسرحياته التي لم أحضرها، لكنني يومها قلت في نفسي بالتأكيد يجد صعوبة في الأداء، حالته الصحية لا تبدو بخير كما أن وجهه يبدو مرهقاً جداً، لكنني وفي لقاء تلفزيوني لاحق فوجئت بشخص مختلف كلياً، تدب فيه الحياة بمجرد أن تواجه الكاميرا وجهه فينطلق بقوة وحماس شاب في مقتبل العمر، استطاع أن يواصل العمل حتى نهاية عمره فلم يتوقف رغم تخطيه الثمانين عن تقديم حتى الإعلانات وآخرها إعلان وي والذي اختتمه بقبلة للجمهور كأنها قبلة الوداع.
خلطة سمير
في طفولتي أيضاً ظللت لفترة غير قصيرة أجد صعوبة في تصديق أن الممثل الذي رأيته في فيلم "الزواج على الطريقة الحديثة"، هو ذاته الذي ظهر في فيلم "البعض يذهب إلى المأذون مرتين" هو ذاته "فطوطة" الذي يظهر عبر الفوازير بالبدلة الخضراء الشهيرة، وهو أيضاً ذلك الممثل الذي صرنا نراه في العقود الأخيرة بالبدلة السوداء ذات التصميم المميز.
كان سمير شخصاً مختلفاً كلياً في كل مرحلة من تلك المراحل، في كل مرة كان شخصاً جديداً يفي بمتطلبات المرحلة لينتقل منها بسلاسة شديدة إلى مراحل عمرية وشكلية جديدة، حتى إنك تجد صعوبة في استيعاب التغيرات التي طرأت على مظهره منذ بداياته وحتى وفاته.
حالة التصالح الشديدة بين سمير غانم والحياة عموما تدرس، لكن أكثر حدث استوقفني في حياته هو الفشل الذريع في بدايتها حين تم فصله من كلية الشرطة عقب التحاقه بها بعامين، رسب في العام الأول، وحين أعاد العام رسب في ثلاث مواد وتم فصله بواسطة الكلية، ما زلت أتوقف عند تلك الجملة حين قال في لقاء سابق مع الإعلامي وائل الإبراشي "لو كنت نجحت في مادة منهم كنت اتنقلت لسنة تانية ومستقبلي اتغير".
في البداية كان سمير متصالحاً مع الصلع فلم يخف رأسه بأي شعر مستعار، ولم يحرص على إنبات شاربه أو ذقنه، منذ ظهر على مسرح كلية الزراعة والجامعة، حيث التقى بالثنائي الضيف أحمد وجورج سيدهم، لينطلقوا بمجموعة من السكتشات المميزة، وقتها لم يكن يكترث أيضاً إلى وزنه، ما ساهم في خروجه بمظهر لم يوحِ قط بالتغييرات اللاحقة.
مع وفاة الضيف أحمد بدأت مرحلة جديدة من حياة سمير غانم مع بداية السبعينات، حيث صار شخصاً جديداً كلياً أقرب إلى الوسامة مع شعر مستعار ناعم، ووزن أقل وشارب أسود ثقيل، لتتنوع أعماله خلال سنوات السبعينات والثمانينات وأيضاً التسعينات.
وصولاً إلى المرحلة الجديدة من حياته، بعد تقدم العمر حيث لم يتوقف لحظة عن الظهور، هذه المرة ليس كبطل للعمل كما اعتاد، ولكنه كان ظهوراً شرفياً ومميزاً في كل مرة، حافظ على بقائه حتى العام الأخير من عمره كعنصر أساسي يراه المصريون باستمرار عبر الشاشات وكعامل أعطاه الدافع لأن يبقى ويشعر مع كل لحظة بالجدوى من الحياة والعمل.
لم يقع في الفخ
اعتياد النجومية قاتل، فجأة يتحول الشخص اللطيف الذي يحبه الجميع مع مرور الوقت إلى كائن منتفخ يشعر بالأهمية القصوى، وأن من حوله لا يتمتعون بذات القدر من الأهمية، فتنفلت التصرفات وتظهر مجموعة من ردود الفعل المهينة للصحفيين أو المعجبين أو سواهم، وسواء ظهرت للسطح أو لم تظهر، يبقى العاملون في المجال الفني والقريبون منه هم الأكثر دراية به فيميزون بين فلان بأنه محترم ومتواضع بينما علان ليس كذلك.
في الوقت الذي يودي فيه ذلك الطبع بفنانين ما يزالون في مقتبل حياتهم كمحمد رمضان على سبيل المثال، لم يقع سمير غانم في ذلك الفخ ولو للحظة، في الواقع كانت تلك هي الميزة الأبرز لسمير غانم، لم ينتفخ لأنه نجم ولم يتعامل باعتباره رجلاً صاحب تاريخ، لم يقتصد في ظهوره، ولم يتكلف في كلماته، كان بسيطاً بحق، كلما سنحت له الفرصة كي يظهر كان يفعلها بلطف وحب وهدوء، كان ذلك إعلاناً أو لقاء أو ظهوراً خاصاً.
لهذا حين نعاه الفنانون المصريون والعرب، المشاهير والمغمورون، نجوم الصف الأول والكومبارس، المطربون والجمهور العادي، لم أجد أحدهم إلا ونشر صورة جمعته بسمير، مع نفس الابتسامة الحقيقية على وجه الرجل، وذات المرح الذي يسيطر على الصورة بالكامل، تذكر صديقتي حين كنا بعد طلبة بكلية الإعلام أنه تم تكليفها بعمل حوار معه، كانت تخشى مكالمته كثيراً، فهو بالتأكيد شأنه شأن المشاهير سوف يحرجها ويراها صغيرة في العمر والمقام، لكنه فاجأنا جميعاً، اتصلت صديقتي بالرقم الذي يفترض أنه للفنان الجميل، فلم يرد وفقدت الأمل أنها قد تصل إليه وبينما هي مهمومة فوجئت برقم سري "privet number" يتصل بها ليخبرها أنه سمير غانم، لم يكن بحاجة لأن يخبرها، لقد عرفت زميلتي فوراً أنه هو من نبرة صوته المرحة التي لا تخطئها أذن، كان متواضعاً للغاية، وتحولت المكالمة المخيفة إلى صداقة وطيدة، "كأنه عارفني من زمان"، هكذا تبادلا حكايات عديدة في مكالمة طويلة انتهت بأن أعطاها رقمه الشخصي ليخبرها بأريحية شديدة "كلميني في أي وقت يا بنتي"
لم يكن هذا التصرف عارضاً في حياة النجم الكوميدي، محمد حمادة موظف باتحاد الإذاعة والتلفزيون، كان واحداً من الحزانى على مرض كل من دلال وسمير كتب يروي بصدق "يشهد ربنا اشتغلت معاهم أكتر من عمل، أقسم بالله قمة في الاحترام المتبادل بين الناس والسنة اللي فاتت اتصلت بيا مدام دلال عبدالعزيز وكلمتني أكتر من نص ساعة عشان تحل مشكلة وتساعدني، أما بقى أستاذ سمير ده بلدياتي من الفيوم كل لما يقابلني يقولي بلدياتي حبيبي الفيومي الجدع.. ساعات بيكون الكلام عاجز عن التعبير"، سمعت الحديث على لسان صاحبه فابتسمت بسري لأن سمير كان صعيدي الأصل وليس فيومياً كما حاول أن يوحي لمحمد، ولد سمير في أسيوط وعاش فترة في محافظة بني سويف بصحبة والده الذي كان يعمل ضابطاً مختصاً بفض أزمات العربان والمشاكل بين القبائل في المنطقة.
كل يملك قصة خاصة عن سمير، تروي صديقة أخرى لي كيف روى لها والدها أن الراحل اعتاد النزول مع دلال في فندق بعينه بالإسكندرية، وكيف كان يجزل العطاء للجميع بمنتهى الحب، والسخاء، وأنه اعتاد تشغيل القرآن في غرفته بحيث تحولت إلى علامة مميزة بالصوت المنبعث منها بين الغرف، أحبه الجميع وزوجته وترددت تلك الجملة كثيراً مع الأصدقاء "كانوا بيعملوا خير كتير جداً ومش بيقولوا لأنهم قاصدين يكون لله"، الأمر الأكيد أن الرجل أثبت أنه بإمكان المرء أن يعيش على ذلك الكوكب لأكثر من 80 عاماً دون أن يفتعل مشاكل أو يؤذي الآخرين بالقول أو الفعل.
ثلاث زوجات وابنتان
أكثر ما أثار اهتمامي حين تحدث سمير غانم عن زيجاته في برنامج السيرة مع الإعلامية وفاء الكيلاني هو طريقة حديثه عن زوجتيه السابقتين، فحين ذكر قصة زواجه الأولى من فتاة صومالية جميلة تعرف إليها خلال حفل قال: "كانت ست جميلة وبنت حلال" رغم أن زواجه منها لم يستمر لأكثر من شهرين أو ثلاثة على الأكثر، أما زوجته الثانية فوصفها قائلاً: "كانت ست عظيمة، وكانت مدة زواجنا أسبوع فقط وكنا متفقين على استحالة استمرار الزواج".
نبرة الاحترام الشديدة في الحديث عن سيدتين لم تعودا في حياته بأي شكل أسرتني، كما أسرني صدقه الشديد مع نفسه ومع الجميع، الرجل الذي شعر في مرحلة ما من حياته أنه لن يكون ناجحاً في مشروع الزواج قرر عدم الزواج وأعلن ذلك للجميع، لكنه استسلم في النهاية أمام رغبة دلال عبدالعزيز في الزواج منه، وتصميمها على ذلك لسنوات طويلة قبل أن يتحقق حلمها أخيراً.
رغم إضرابه عن الزواج إلا أن زيجته من دلال عبدالعزيز كانت ناجحة، شهدت له زوجته في أكثر من مناسبة بأنه بار بأهله، ربما لهذا ظهرت شقيقته وشقيقه في حالة انهيار شديدة بالمستشفى عقب وفاته وحتى دفنه، وربما لهذا أكد كل من زوجي ابنتيه رامي رضوان وحسن الرداد على أنه كان الأكثر طيبة وحناناً في العالم، حتى دلال نفسها، التي طاردته لأربع سنوات وقضت بصحبته 37 عاماً كزوجة وحبيبة قالت عنه قبل أسابيع إنها ترى حب الله له ممثلاً في حب الناس الشديد له.
نهاية حزينة وعلامات قبول
لا أستطيع صرف عقلي عن التفكير في دلال تلك المرأة التي اشتهرت في الوسط الفني بأنها الأكثر أداء للواجبات الاجتماعية، لم تدع جنازة إلا وحضرتها، أو مريضاً إلا وقامت بزيارته، قَدر لها أن يموت رفيق عمرها دون أن تحضر جنازته أو تشهد الصلاة عليه، هي لم تعلم حتى كتابة تلك السطور أنه قد مات أصلاً؛ حيث ترقد بأحد المشافي تعاني بدورها من تليف بالرئة جراء إصابتها بفيروس كورونا المستجد!ربما سيجبر بخاطرها ويخفف من لوعتها أن رفيق عمرها توفي مبطوناً عقب معاناة مع تبعات إصابته كورونا والتي أثرت على أداء وظائف جسده بالكامل، فضلاً عن إصابته بالفطر الأسود القاتل، توفي ليلة الجمعة، وقدر له أن تشهد جنازته حضور عدد ضخم من المصلين، السيدة التي تتمسك بسبحتها ربما ستدرك الحكمة من التجربة لاحقاً، حين يمن الله عليها بالشفاء وتجلس إلى هاتفها بهدوء لتتصفح مئات الآلاف من المنشورات التي نعت زوجها وطلبت له الرحمة والمغفرة بصدق وحب، من أبسط الناس وحتى رئيس الجمهورية والذي نعاه قائلاً: "كان الراحل خير نموذج للفنان الذي عاش من أجل نشر البهجة وإسعاد الجميع".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.