انخرطت تركيا في الأيام الأخيرة في علاقات دبلوماسية مكثفة مع ليبيا ومصر، فبينما يجري وفد تركي يضم وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ورئيس المخابرات هاكان فيدان ووزير الدفاع خلوصي آكار زيارة إلى ليبيا، اتجه وفد آخر برئاسة نائب وزير الخارجية سادات أونال إلى مصر. وتعتبر تلك الزيارة على قدر كبير من الأهمية من حيث كونها أول اتصال بين تركيا ومصر على هذا المستوى عقب 8 سنوات من القطيعة. وقد جرى الإعلان عن إجراء مباحثات استكشافية في الخامس والسادس من مايو/أيار الجاري بين تركيا ومصر.
أما عن ليبيا؛ ففي المؤتمر الصحفي الذي جمع جاويش أوغلو بوزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش صرحت الأخيرة بأنها "تدعو (تركيا) في إطار احترام سيادة ليبيا إلى إنهاء وجود كافة القوات الأجنبية والمقاتلين المرتزقة على الأراضي الليبية".
فما الذي يقف وراء هذه التحركات الدبلوماسية المربكة؟ لماذا بدأت تلين العلاقات المصرية التركية بعد 8 سنوات من القطيعة؟ وماذا يمكن أن تكون مكتسبات الأطراف نتيجة هذه التطورات؟ هل من السهل أن تعود العلاقات إلى سابق عهدها؟
في الأول من مارس/آذار الماضي عندما أعلنت مصر عن المناطق التي ستجري فيها أبحاث في شرق المتوسط اتضح أنها ستجري ذلك الإجراء في ظل احترام لحدود الجرف القاري التركي. وفي الثالث من الشهر نفسه صرح جاويش أوغلو بأن "مصر أعلنت أنها ستقوم بالبحث والتنقيب شرقي المتوسط على نحو يحترم حدودنا في شرق المتوسط، نثمن ذلك، وبكل تأكيد يمكن أن نبرم اتفاقاً مع مصر". أعقب ذلك تصريح من وزير الدفاع التركي آكار في السادس من الشهر نفسه كان مفاده أن "هذا تطور هام للغاية، نتمنى استمرار ذلك. نحن نشارك مصر قيماً تاريخية وثقافية مشتركة. ونعتبر أنه بتفعيل تلك القيم قد تحدث تطورات مختلفة في الأيام المقبلة". عقب هذه المرحلة بدأت العلاقات المصرية التركية في التقدم بشكل أسرع، وأعلن مولود جاويش أوغلو في الثاني عشر من مارس/آذار أن العلاقات الدبلوماسية مع مصر قد بدأت. في الخامس والعشرين من الشهر نفسه أجرى رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي زيارة إلى مصر أعقبها بزيارة إلى تركيا.
أما عن التطورات الأخيرة فكانت رفع تركيا الفيتو عن مصر في حلف الناتو، وتأسيس مجموعة الصداقة المصرية التركية في مجلس الأمة التركي. فهل الرغبة التركية في إبرام اتفاق ترسيم الجرف القاري مع مصر وحدها هي من تقف وراء هذه التطورات؟
كما هو معروف؛ عندما انتخب ترامب رئيساً للولايات المتحدة قام بتأسيس "تحالف الكرة" في إشارة إلى الصورة الشهيرة له مع السيسي والملك سلمان. أما بايدن فقد انتقد حكومتي مصر والسعودية طيلة حملته الانتخابية. وقد كان ذلك مؤشراً على أن التحالفات في العالم العربي لن تكون على ما كانت عليه خلال عهد ترامب. وعندما انتخب بايدن شعرت الجهات الموجودة في هذا التحالف بالقلق. لم تكن تلك التطورات وحدها هي ما تم ضد مصر، فالأزمة الاقتصادية الموجودة في البلاد وحادثة سفينة قناة السويس وكارثة القطار التي وقعت خلال الأشهر الماضية والأزمة المائية مع إثيوبيا وضعت الحكومة المصرية في موقف صعب.
في أواخر عام 2019 وقعت تركيا وليبيا اتفاقية لترسيم مجالات الصلاحية البحرية، وقد صيغت الاتفاقية على نحو عادل آخذة في الاعتبار الحقوق الليبية. على إثر ذلك وبتسرع من اليونان وقّعت مصر اتفاقاً مشابهاً مع اليونان. غير أن مصر خسرت هنا 11.500 كم2 كانت لتكسبها إن هي وقعت اتفاقاً مع تركيا. وقد سلبت اليونان هذه المنطقة. علاوة على ذلك فالاتفاق مخالف للقانون الدولي.
أما التطور الأهم فكان هزيمة حفتر في ليبيا، لأن داعمي حفتر كانوا يعتقدون أن حفتر سيستولي على طرابلس ليطيح بالحكومة الشرعية وينهي اتفاقية ترسيم مجالات الصلاحية البحرية الموقعة بين تركيا وليبيا. وقد تمت إعاقة هذه المحاولة بتدخل تركيا في اللحظة الأخيرة واندحر حفتر. تركيا بدورها زادت من دعمها.
فيما بعد تم اختيار حكومة انتقالية لتنظيم الانتخابات المزمع عقدها في ديسمبر/كانون الأول من هذا العام. وكما هو واضح فالتحركات التركية ساهمت في دعم السلام لدول المنطقة، كما انطلقت تلك التحركات من مبدأ الربح المتبادل للجميع. الأوروبيون والروس الذين لديهم مرتزقة في ليبيا لا يهتمون سوى بالسيطرة والتحكم في البترول.
ربما تكون مصر قد تابعت تلك التطورات واتجهت لتبني سياسة مختلفة. فمصر هي قبل كل شيء دولة لها تقاليد وعقل الدولة، فقد أثبتت تلك الحضارة العريقة أنها لن تكون أداة في أيدي بعض الدول مثل اليونان.
من المحتمل أن تتم إعادة تعيين السفراء بين تركيا ومصر في الأيام المقبلة. كما يمكن أن يتم إبرام اتفاق لترسيم مجالات الصلاحية البحرية في المرحلة المقبلة. وبهذا ستكون مصر قد حافظت على حقوقها القومية عبر الاتفاق الذي ستوقعه مع تركيا. بالتأكيد لن تكون تلك العملية سهلة. لأنه وكما ذكرت في بداية مقالي؛ فالاتصال تم لأول مرة عقب 8 سنوات من القطيعة. ولهذا السبب قد يكون هناك عدم ثقة بين البلدين. علاوة على ذلك فتركيا لن تقوم بتسليم أعضاء جماعة الإخوان الموجودين على أراضيها.
الموضوع الأهم هو الضغط الخارجي الممارس على مصر. فقد تزيد بعض الدول الغربية التي لا تريد لهذا التقارب أن يتم من ضغطها على مصر، وقد كان يراد لذلك أن يتم في ليبيا. كانت هناك رغبة لخلق مواجهة بين تركيا ومصر في ليبيا مرتبطة برغبة في إعاقة عمل اتفاق ترسيم لمجالات الصلاحية البحرية من هذا النوع. فوق ذلك فحدوث مواجهة بين تركيا ومصر سيكون تطوراً سلبياً بالنسبة للعالم الإسلامي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.