ليس بمقدور أحد أن يدحض أو يغطي على كل تلك الأرقام التي حققها مسلسل "الفوندو" في تونس، سواء عبر شاشة "الحوار التونسي" لمالكها سامي الفهري أو عبر موقع "اليوتيوب"، وتحطيمه للعديد من الأرقام القياسية، كما ظل يردد أغلب مقدمي البرامج في نفس القناة، وهذا طبعاً حقهم الطبيعي الذي لا جدال حوله.
لكن حين نتمعن في تفاصيل المسلسل الذي كتبته وأخرجته سوسن الجمني (والتي أتوقع لها شخصياً أن تتسيد المشهد الفني وتصبح اسماً لامعاً في عالم الإخراج) وشارك في بطولته نضال السعدي، وياسين بن قمرة، ومغني الراب نوردو، والقديران كمال التواتي، ورؤوف بن عمر، وآخرون كثر، نجد أنه جمع "توليفة" رائعة تحسب للمشرفة على العمل، من خلال المزج بين أسماء شابة موهوبة وأخرى صاحبة باع طويل في المجال، منها من توارى عن الأنظار لفترات، ومنها من افتقد لإدارة إخراجية محكمة كتلك التي تملكها سوسن الجمني.
فقصة المسلسل ليست بالجديدة ولا الفريدة من نوعها، وتدور حول شخصية "يحيى"، الذي قضى عشرين عاماً من عمره في السجن، متهماً بجريمة لم يرتكبها، وحين يخرج يقابَل بنظرات مريبة من المجتمع، ويقرر إعادة الاعتبار لنفسه والبحث عن الجاني الحقيقي الذي سيكتشف ومعه الجمهور في الحلقة الأخيرة أنه كان أقرب الأشخاص إليه ولقلبه، ولعل صاحبة المسلسل ظلت حريصة على اللعب حول وتر التشويق وتمويه المشاهدين وشدهم حتى المشهد الأخير؛ ما حول هذا السؤال لحديث الساعة في تونس كلها: من قتل مريم؟
في السياق نفسه، وبعيداً عن هذا الشق "الإيجابي" دعونا نتوقف قليلاً عند أسئلة تبدو محيرة حقاً، ومصاحبة في الغالب لمثل هذه النوعية من الأعمال، والتي بدأتها قناة "الحوار التونسي" منذ مسلسل "أولاد مفيدة" لخمسة مواسم، بقيادة الإعلامي والمخرج وصاحب المحطة سامي الفهري، وهذه المرة تتسلم مساعدته سوسن الجمني المشعل منه، لتُواصل في نفس الدائرة، التي "يقال" إنها تجذب المشاهدين وتحطم كل الأرقام، وبالتالي تسمى "نجاحاً فنياً كبيراً" وغير مسبوق في تونس الخضراء، لكن هل هذا هو المجتمع التونسي حقاً، وهل تعكس هذه المسلسلات حقيقته؟
في "الفوندو" مثلاً نشاهد كيف يتصرف المراهق مع أبيه، وتلك اللهجة التي يخاطبه بها، ونرى "يحيى" يتفنن في جرح جسده كي يعبر "لبية" عن حبه، وهنا نتساءل: لطالما نتحدث عن نسب مشاهدة بالملايين، فكم من شاب سيحذو حذو بطل العمل كي يكشف لحبيبته عن مشاعره بتلك الطريقة العنيفة، وهؤلاء لن يتوقفوا عند نقطة مهمة أننا أمام شخصية "معقدة"، وعانت الأمرّين في السجن وويلات الظلم.
بالإضافة إلى الإصرار المبالغ فيه من أجل إضفاء صبغة "ملائكية" على شخصيات نرى في واضحة النهار أنها مذنبة ومخطئة، فلماذا نبحث لها عن مبررات وأعذار ونقدمها للمشاهد في ثوب "الحمل الوديع" وهي ليست كذلك؟ لماذا لا نترك الحكم للمتلقي بنفسه بعيداً عن "إرشاده" أو تخديره؟
هذا دون إغفال نقطة أخرى غاية في الأهمية، حول تقديم نماذج الفتاة التونسية "المتحررة"، التي لا تكترث لأسرتها، وبإمكانها القيام بما تشاء دون حسيب ولا رقيب، كل هذه النقاط تجعلنا "نتوجس" صدقاً من مبالغة صناع هذه النوعية من المسلسلات في التغريد خارج السرب، مخبولين بوهم الأرقام، دون إدارك لخطورة ما يطرحونه دون تدقيق، مع العلم أن الطريقة التي يخاطب بها بعضهم التونسيين تكشف حقيقة أنهم أبعد ما يكونون حقاً عن مناقشة قضايا وهموم البلد، وهم يستخدمون لغة "موليير" أكثر من اللهجة التونسية.
نختم بنفس السؤال: هل تعكس هذه الأعمال واقع المجتمع التونسي حقاً؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.