ملل.. ملل.. ملل، سئمت من حياتي، كل يوم نفس الوجوه ونفس الأحداث، أرغب في شيء جديد، ليس بالضرورة أفضل أو أرقى، يكفي أن يكسر روتيني اليومي ويكون شبيهاً بالعالم الواقعي لا ينتمي لآخر لا أعرفه ولا أتوقع التعرف عليه بأي حال من الأحوال، هناك حل من اثنين أولهما أن أبدل جلدي مثل الحرباء وأتحول لشخص آخر –ترفضه الطبيعة للأسف- أما الأخر فأن أتلصص على حياة شخص آخر، أرى بعينه أسافر معه أخبُر تجاربه لكن دون أن أغادر مقعدي الأثير، إن لم يعجبني ما يراه سأنتقل لغيره.. من مدينة لمدينة.. من ثقافة لأخرى وهكذا.
نعم عزيزي هذا ما يفعله أغلبنا طوال الوقت حينما يتابع مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة أهل الإنستغرام واليوتيوب، أمر يجب أن يسجل في التاريخ كأول تلصص يسعى له المتلصَّص عليه ويكون ضحيته المتلصِّص ذاته، التلصص هنا متحور بعض الشيء؛ فأغلب ما يُعرض معد مسبقاً وإن أقسموا هم على غير ذلك، كما أنهم يقومون بالحذف والتعديل والإضافة؛ للحصول على صورة مثالية تجذب الانتباه فقط لا غير.
الانتباه هدفهم الأول؛ فهو ما يرفع من معدلات التفاعل الذي تأتي بعده أموال المشاهدات –في حالة اليوتيوب- ودعم المعجبين وفي ذيلهم الرعاة والمعلنين وهكذا حتى يصبح "تحدي الأكل الفلاحي ضد أكل الهوانم" الأعلى مشاهدة على اليوتيوب، ويصبح بائعو الأوهام وصائدو الأموال المعيار الأمثل للنجاح.
استثناء واجب
بدايةً وقبل أن أطلق سهامي على من باعوا حياتهم وحياة عوائلهم في سبيل المال والشهرة والنجاح الزائف يجب أن أستثني صناع المحتوى الهادف، من جعلوا الصالح العام نصب أعينهم، أي نعم منهم من يعرض جانباً أو جوانب من حياته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي لكنه تناول محدود مقنن، لا ينحرف لمسار الحياة اليومية التقليدي ولا ينزلق لهوة التحديات والمقالب.
يمكنني تلمس تأثيركم الإيجابي على حياة الكثيرين وأنا أولهم، شكراً من صميم قلبي، عسى الله أن يزيد من أمثالكم.
أحرى بالاستثناء من تصدروا للخدمة العامة ومن تضطرهم حياتهم العملية لكشف جزء من حياتهم الخاصة، إما عن طيب خاطر وإما بتعرضهم للتلصص والانتهاك، أولئك من قال عنهم ابن حزم الأندلسي -رحمه الله-: "من تصدر لخدمة العامة فلا بد أن يتصدق ببعض من عرضه على الناس؛ لأنه لا محالة مشتوم، وإن واصل الليل بالنهار"، طبعاً كلامنا نخص به الجادين المتفانين لا المنتفعين المستغلين.
ليس بجديد
تاريخ الاتجار بالحياة الشخصية –الذي يمارسه هؤلاء- طويل ومتشعب، مر بمراحل عديدة بداية من تلفزيون الواقع بجميع أشكاله لا سيما من يقوم منه على المعايشة الكاملة إلى مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي حالياً أو ما يعرفون بـ"الإنفلونسرز" أي المؤثرين أو الملهمين.
دعنا من الماضي وليكن الحاضر نصب أعيينا، لنتعرف الأسباب التي دفعتهم لعرض أدق خصوصياتهم والدعائم التي ارتكزوا عليها في نجاحهم.
دوافع الإنفلونسرز
أما عن دوافعهم فلا يمكننا الحكم بسهولة عليها إنما هي محاولة لقراءة الواقع، الإنفلونسرز لا سيما التوافه منهم تتسلط عليهم ثلاثة أشياء، هي: شيطان الشهرة والإحساس الكاذب بالأهمية ورغبة الربح السهل، العامل الثاني يمكن اعتباره نتيجة للأول ولكن يختلط عليهم الأمر بعد فترة ويعتقدون أن أهميتهم نابعة من ذواتهم لا وليدة ما يقدمونه من محتوى أحبه الناس لتفاهته على الأرجح.
دعائم نجاح الإنفلونسرز
تزامن ظهور الإنفلونسرز مع بدايات مواقع التواصل الاجتماعي ذاتها، بدأ الفيسبوك عام 2004 ولحقه اليوتيوب عام 2005 وإنستغرام عام 2010 هذه هي الثلاثة الكبار التي يهتم بها الإنفلونسرز، يليها تويتر على استحياء بسبب طابعه الجاد والمحدود بعض الشيء، توالى ظهور مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى وظهر منها فصيل أكثر سطحية من المؤثرين وصناع المحتوى.
المعادلة التي أنتجت الإنفلونسرز هي منصة واتصال بالعالم بأسره وشخص محب للظهور، أما ما دفع بهم للسطح فهي عدة عوامل أخرى؛ لنستعرضها معاً:
مواقع التواصل الاجتماعي ذاتها
المواقع تقوم بشكل رئيسي على عملية تداول المحتوى، لذلك فهي في حاجة دائمة لمحتوى جديد جذاب يزيد من مدة استخدام المستهلكين لها، هذا ما استعرضه بقوة الفيلم الوثائقي The Social Dilemma، تدعم منصات التواصل صناع المحتوى على اختلاف طوائفهم المهم أن يكونوا من المؤثرين الملهمين –أيا كان كنه التأثير طالما لا يعادي السامية أو التحرر- عبر ورش عمل ومؤتمرات وفعاليات وحتى دورات وإرشادات إلكترونية ناهيك عن حفلات التكريم والجوائز المادية، هؤلاء هم أداة المواقع في التأثير على الناس جنباً إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي الذي سُخرت موارده لمعرفة كل شيء عنا وكيف يمكن استخدامه لصالحنا تارة ولصالح أهل التجارة والسياسة تارات أخرى.
شركات الدعايا
نعم شركات الدعايا من أكبر المستفيدين من الإنفلونسرز؛ فعادة ما تستخدمهم لعرض منتجاتها والترويج لها، إما بشكل مباشر في الإعلانات مثلاً حتى إن بعض المحلات والمطاعم أصبحت تتعاقد مع إنفلونسرز من نفس المدينة، وإما بشكل غير مباشر عن طريق ترشيح المنتج أو ظهوره عرضاً كغرض يومي للمؤثر.
وصل الأمر لتفضيل شركات الدعايا للمؤثرين على مشاهير الفن، بسبب تأثر الناس الشديد بهم حيث إن 92% من المستهلكين يثقون في كلام الإنفلونسرز أكثر من الإعلانات التقليدية أو ترشيحات المشاهير حسب إحصائيات شركة نيلسن الأمريكية المتخصصة في مجال المعلومات، لم لا؟
وهم أناس عاديون في نهاية المطاف ليسوا بنجوم ولا عمالقة -مثلما يطلق أهل الفن على أنفسهم- يمكن الاقتداء بهم بسهولة ويحلم البعض حتى أن يكونوا مثلهم؛ فالطريق سهل وخيط البداية في أيديهم الآن.
المؤسسات الثقافية الدولية
يوجد الكثير من الأذرع الإعلامية للمؤسسات الحكومية سواء تم إعلان ذلك بشكل واضح أم لم يعلن وهو الغالب الأعم، الكثير منهم يكون بتوجيه ورعاية مؤسسة ثقافية ما، مثل: قناة كوكب اليابان المدعومة من قبل مؤسسة اليابان وهي منظمة ثقافية دولية وظيفتها تحسين صورة اليابان في العالم، كذلك تقوم قناة Ms.V بالشيء ذاته لكن لدولة الصين.
يمكن تمييز هؤلاء بسهولة، تجدهم يذكرون المزايا عادةً ويغفلون أو يتغافلون عن العيوب، صورة مبتورة عن الدولة تغرر بالكثيرين للأسف، إذا أردت التعرف على ثقافة ونمط حياة دولة ما –خاصة إذا كنت تخطط للانتقال إليها- فاستمع لأهل البلد الحقيقيين ممن لا يتقاضون أجر تجميل الصورة.
الإنفلونسرز أنفسهم
فكرة التأثير نفسها تقوم على خلق صورة مثالية، إنسان وسيم ناجح سعيد يحقق إنجازات على أي صعيد من أصعدة حياته، من ألعاب الفيديو لإنشاء الشركات -معظمهم يفعل ذلك حالياً- التأثير تطور كذلك وأصبح له مدارس ومناهج، يوجد له تقنيات محددة مثل توقيت النشر والكلمات الدلالية وطرق العرض والتشجيع على التفاعل وهكذا، كما أن أغلبهم لهم الأسبقية في الانضمام لمواقع التواصل الاجتماعي منذ بداية نشأتها، كذلك لعوائلهم وأصدقائهم دور كبير سواء بمشاركة مباشرة في صناعة المحتوى المقدم، أو عن طريق الدعم والعمل من خلف الكاميرات.
ثم ماذا؟
خطورة فكرة الإنفلونسرز الأولى هي في قدرتهم الفائقة على تشكيل الرأي العام لدى حديثي السن على وجه الخصوص، كما أن أغلبهم يحيط نفسه بهالة زائفة من المثالية ويرفعون طموح المشاهدين بما يفوق قدراتهم هم أنفسهم الخاصة، البعض يصل بهم الأمر أنهم يتباهون بأشياء كل علاقتهم بها أن تصادف وجودهم حدوثها لا أكثر ولا أقل، يستخدم بعض الإنفلونسرز شهرتهم للترويج لمنتجاتهم التي يكون بعضها عديم القيمة أو بالغ السوء والخاسر الوحيد هنا هو من صدق وآمن.
أنت أولاً
يمكن الاستفادة بالإنفلونسرز خاصة الأجانب منهم على نواحٍ عديدة، من خلال التعرف على خبرات وثقافات مختلفة ومتنوعة، كذلك تنمي عندنا فكرة تلقي الآخر بشكل كامل وتقبل إنسانيته، لكن لا تنسى أنه بالنسبة لأغلب الإنفلونسرز أنت مجرد رقم لا أكثر ولا أقل، تكتسب قيمتك من قيمة ما يمكن تحصيله من أموال بسببك، لذا فالأمر على عاتقك، انتق ما يناسبك ويخدم مصالحك ولا تنسق وراء القطيع وتعلق أملك بشخص لم ولن يعرفك، حياتك الواقعية تستحق ما هو أكثر بكثير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.