في أواخر أيام شهر رمضان المبارك بدأت محاولة التهجير القسري لعددٍ من العائلات الفلسطينية في حيّ الشيخ جراح بالقدس، من قِبل المستوطنين اليهود برفقة شرطة الاحتلال الإسرائيلي، ما استدعى مقاومة العائلات ومساندة أهالي الأحياء المجاورة لهم ضد العدوان والتهجير، تزامن مع ذلك محاولة اليهود الحشد والتنظيم بواسطة عدة جمعيات يهودية يمينية، أشهرها لاهافا، وتعني "اللهب"، لاقتحام المسجد الأقصى وطرد المصلين من داخله، إلى أن تدخلت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وأطلقت عدة صواريخ تجاه المدن الإسرائيلية المحتلة، لتحترق كافة المدن والشوارع الفلسطينية بين الفلسطينيين ومقاومتهم السلمية واللّاسلمية وقوات الاحتلال الإسرائيلي.
تلك الأحداث الزاخمة في صداها الإعلامي أدت إلى تفاعل الكثير حول العالم معها، على المستوى الشعبي والنخبويّ، بالتضامن مع الفلسطينيين في حقّ الدفاع عن أنفسهم، وإدانة قوات الاحتلال لاعتقالها وقتلها الفلسطينيين. فما الأسباب وراء ذلك التضامن الواسع لفلسطين وشعبها؟
المتضامنون؟
يمكنني هنا عند عدّ المتضامنين مع القضية الفلسطينية أن تكون الشعوب هي الأولى من حيث الذكر، حيث بعد اندلاع أحداث اقتحام الشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى يوم 10 مايو/أيار الماضي، خرجت الشعوب العربية لمساندة الفلسطينيين ضد هذا العدوان، كالأردن والعراق واليمن والكويت وقطر، ومع اشتعال الأحداث لتتحول خلال أيام قليلة إلى حرب واسعة يشنّها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، خرجت عشرات ومئات الآلاف حول العالم لرفض هذا العدوان، في فرنسا، بلجيكا، ألمانيا، أيرلندا، بريطانيا، إسبانيا، إيطاليا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، كوريا الجنوبية، جنوب إفريقيا، إندونسيا، وغيرها من البلدان.
أيضاً سرعان ما اتخذ لاعبو كرة القدم لاسيّما اللاعبين العرب والمسلمين في أوروبا مواقف دعم لفلسطين وأهلها، عن طريق كتابة التغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل اللاعب المصري محمد النني، والجزائري رياض محرز، والسنغالي ساديو ماني، فضلاً عن اللاعب المصري السابق محمد أبو تريكة، الذي لا يفوّت فرصةً إلّا ويقتنصها في التضامن مع القضية الفلسطينية، حتى وصل الأمر إلى رفع الأعلام الفلسطينية في الملاعب بعد ذلك، كما حدث بعد انتهاء نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي بين فريقي ليستر سيتي وتشيلسي، حيث قام اللاعب حمزة تشودري، وهو إنجليزي مسلم من أصل بنغالي، والفرنسي من أصل إيفواري ويسلي فوفانا برفع علم فلسطين أمام ملايين الجماهير الذين تابعوا المباراة.
بالتزامن، تضامن أيضاً العشرات من الفنانين سواء العرب، أو جنسيات أُخرى. يمكننا هنا تفهم تضامن الإنسان العربي أيّاً كانت حرفته الرياضية أو الفنية، لكن الأمر لم يقتصر عليهم، حيث تضامنت الممثلة الإسبانية ألبا فلوريس، نجمة المسلسل الشهير "لا كاسا دي بابيل"، والممثل والمخرج الأمريكي مارك روفالو، بل وطالب بلزوم فرض عقوبات على إسرائيل لما تفعله من انتهاكاتٍ مستمرة بحق الشعب الفلسطيني، سوزان ساراندون تضامنت، وهي ممثلة أمريكية، والممثل الأمريكي جون كيوزاك أيضاً، والمغني الأمريكي جون لجند كتب أن حياة الفلسطينيين مهمّة، وكذلك المغنية الأمريكية زندايا، طالبت عبر حسابها على إنستغرام بالتبرع لأهل غزة.
يمكن تفسير التضامن الواسع من المشاهير من ذوي الجنسية الأمريكية مع القضية الفلسطينية، على أنه اعتراض منهم، وإحساسهم بالمسؤولية تجاه نقد سياسات البيت الأبيض والولايات المتحدة الأمريكية، نظراً لأنها هي الداعم الأول للاحتلال الإسرائيلي، سواء بالمساعدات المالية أو العسكرية، فضلاً عن الحماية الدولية، باعتراضها بشكل دائم (حق الفيتو) على أي قرار تتخذه مجموعة دول مجلس الأمن ضد إسرائيل. ناهيك عن تضامن غيرهم من مشاهير الفن حول العالم.
كيف نفهم موجة التضامن الحالية؟
من ناحية الشعوب العربية والإسلامية ومثقّفيها وأنظمة الحكم الحالية، فالقضية الفلسطينية عند تلك الشعوب منذ بدء تراجيديا الاحتلال في عشرينيات القرن الماضي إلى حاضرنا ومستقبلنا، وهى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً في أذهانهم، بل ويورث ذلك التضامن والسعي نحو تحرير الأراضي الفلسطينية عند الأجيال الجديدة بشكل طبيعي ومنهجي.
لذلك عندما يسمح النظام الحاكم في تلك الدول للشعوب بمُتنفس التضامن لا تتردد تلك الجماهير في الاستجابة، بل تذهب على أقدامها نحو الحدود لدفع هذا الاحتلال الغاشم بأجسادها كما حدث في الأردن ولبنان. من ناحية المثقفين والدعاة، فمنهم من يتخذ موقفاً إيجابياً تجاه التحرير، ومنهم من تتماهى مواقفه مع سردية النظام الحاكم، إن تضامن أو تخاذل.
التضامن الواسع غير العربي والإسلامي الذي تواجد في عشرات المدن والعواصم حول العالم، نفهمه من خلال مسبباتٍ كثيرة، منها حركة المقاطعة BDS، التي تنشط في عشرات الدول حول العالم بلغات مختلفة على مرّ سنوات فائتة، بدورها تتواصل مع الشركات والأحزاب والحكومات، لفضح منهجية الاحتلال في القتل ونظام الفصل العنصري التي تتبعه الحكومة بحق الفلسطينيين، وغير ذلك من انتهاكات، من أجل فرض عقوبات عليها. هذه الحركة التي تطاردها الحكومة الإسرائيلية باستمرار وتحاول منع وصول نفوذها إلى العالم عن طريق اللوبيات الداعمة للصهيونية في تلك الدولة.
الحركات الديمقراطية في العالم الغربي، خاصة الحركات اليسارية متعددة الأوجه لاسيّما الحقوقية، تُعرف على مدار تاريخها بوقوفها ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلي، لذلك هي تكون طرفاً داعماً وبشكلٍ أساسي في حشد وتنظيم المظاهرات من أجل القضية الفلسطينية، بل والإضرابات أيضاً، كما فعل عمال مرفأ ليفورنو في إيطاليا، حيث رفض العمال تحميل شحنة أسلحة ومتفجرات كانت ذاهبة إلى ميناء أشدود الإسرائيلي، لاعتراضهم على المشاركة في وصول تلك الأسلحة إلى النظام الإسرائيلي العنصري الذي ينتهك حقوق الشعب الفلسطيني، كما جاء في بيان نقابة عمال المرفأ بعد ذلك.
في السنوات الأخيرة، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة حربٍ لتغيير وكسب الرأي العام، في أي قضيةٍ تُطرح، ويتفاعل معها الجمهور سواء بالتأييد أو الرفض أو التضامن عبر المطالبة بسياسات بعينها، وعلى أساس ذلك الفعل تُتخذ إجراءات من الجهات المختصة لمعالجة تلك القضية.
كوّنت تلك المواقع لديها مؤثرين اجتماعيين، وثقافيين، ورياضيين، وترفيهيين، أو كما يعرفون بـ"الأنفلونسرز". هؤلاء يصل أعداد متابعيهم إلى عشرات الملايين من الرواد، يرى الرواد أن على هؤلاء المؤثرين أن يتخذوا موقفاً أخلاقياً بشأن القضايا الإنسانية الحساسة والواضحة كقضية فلسطين، لذلك بدأت المطالبة سريعاً من الملايين الذين تضامنوا عبر الكتابة والهاشتاغ مع ما يحدث في فلسطين، أن يتضامن هؤلاء الأنفلونسرز مع القضية، وإلّا سيلغون متابعتهم، وبالفعل قد استجاب الكثيرون من هؤلاء تماشياً مع مبادئهم الإنسانية والأخلاقية، وإلى حدٍّ ما تماهياً مع الضغط عليهم من متابعيهم، ربما هذا ما حدث مع لاعب ليفربول المصري محمد صلاح، حيث سبقه لاعبون آخرون في التضامن، ما أدى إلى استياء جماهير العالم العربي، وبالأخص المصري، إثر تجاهل صلاح لمساندة القضية، بعد ذلك كتب صلاح تغريدة عبر تويتر، يدين العنف، ويطالب رئيس الوزراء البريطاني بالتدخل، لكنه لم يدن أي طرف من أطراف الصراع بشكل واضح وصريح.
كذلك في العالم الغربي، تفاعلت كل تلك المسببات معاً، ما جعل التضامن جلياً وزخماً للغاية مع القضية، فالحركات الاجتماعية والحقوقية بدورها حرّكت الوعي لدى الجماهير، بدورهم تفاعلوا مسببين ضغطاً على المؤثرين بكافة تنوعات مجالاتهم، بدورهم ساندوها، وأوصلوها للكثيرين. لذلك من الجهة الأخرى تسعى دولة الاحتلال إلى فرض التطبيع الثقافي على الشعوب (العربية خاصة) عن طريق التنسيق الدبلوماسي والاقتصادي والثقافي مع الأنظمة، وبعض مثقفيها المرتزقة، بالإضافة إلى فرض سياسات الشركات التقيديّة كفيسبوك وإنستغرام، عبر تجريم انتقاد إسرائيل وحكومتها، بحجة انتهاك المعايير الأخلاقية للشركة وغير ذلك. وهذا ما أثار ضيق الكثيرين من تلك الشركات وسياساتها الموجّهة، ما استدعى التفكير في مقاطعة تلك الشركات، أو إعلان حملاتٍ ضدها للضغط عليها كنوع من المقاومة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.