إنه عام 1987، يتقدم الرجل الأسود، ممشوق القوام، يسبقه شاربه الكث للمنصة بعدما اختير كأفضل لاعب في العالم. عادة، لا يفوز لاعب أسود بجائزة "الكرة الذهبية" بسهولة، خاصة إذا لم يكن من أمريكا الجنوبية. فقط هو والليبيري "جورج ويا" من كسرا الاحتكار الأبيض للجائزة، واستطاعا الفوز بها. ربما ساعده كونه أوروبياً، نصف أبيض، في الفوز بالجائزة الفردية الأغلى، لكن أيضاً لم يكن هناك من هو أفضل منه ليفوز بالجائزة، كروياً على الأقل. صعد روود خوليت لمنصة التتويج وما كان ليترجّل من على المنصة قبل أن يقول كلمته للعالم أجمع، وكانت مختصرة للغاية: أهدى الجائزة لنيلسون مانديلا.
مانديلا حينها لم يكن بعد زعيماً ولا رئيساً لجنوب إفريقيا، بل معتقلاً في سجون دولة الفصل العنصري البريطانية. وفي إيطاليا، حيث تسلّم خوليت الجائزة، لم يكن مانديلا شخصاً مشهوراً، ولا رمزاً للنضال ضد الاحتلال والعنصرية، لم يكن مانديلا موجوداً أصلاً إلا في قلوب وعقول السود فقط. كلمات خوليت أثارت عاصفة من التساؤلات انطلقت من روما ولم تتوقف في باريس. بدأ مشجعو وأبناء المدن الإيطالية وكل متابعي كرة القدم حول العالم في التساؤل عن ذلك "المانديلا" الذي أهداه معشوق جماهير آي سي ميلان أرفع جائزة فردية في كرة القدم.
بالتوازي، كانت الهمهمات والهمسات تتكاثر عن "مانديلا" والوضع السياسي والإنساني في جنوب إفريقيا، حيث كانت دولة الفصل العنصري تعاني الأمرَّين سياسياً وأمنياً وبدأ العالم يسأم من ممارساتها الهمجية والعنصرية. وفي نفس الوقت، كان خوليت يلتقي الصحفيين والإعلاميين، ليعرفهم بالقضية وينشر وعياً أكبر بها ويستغل حب الجماهير له كي يزرع التعاطف في القلوب أكثر وأكثر مع قضية الشعب الإفريقي العادلة.
بعد 3 سنوات، في عام 1990، سيفرج عن مانديلا، وفي 1994 سيصبح أول رئيس أسود للبلاد. وسيلتقي خوليت بمانديلا، وهو رئيس للجمهورية وزعيم عالمي ومعشوق للإنسانية، وسيخبره الأخير: "لدي الكثير من الأصدقاء الآن، لكن عندما كنت في السجن، كنت من أصدقائي القلائل".
يطلق على روود خوليت، في جنوب إفريقيا، "زهرة التوليب السوداء"، فلقد كان جميلاً وأنيقاً على أرضية الملعب كزهرة "توليب" لا عيب فيها. وهو زهرة "سوداء" في إشارة لهويته التي كان فخوراً بها وناشطاً من أجلها، يدعم قضاياها العادلة ويحصد تعاطف العالم معها.
روود خوليت هو دليل آخر على قدرة كرة القدم على التأثير في العالم وجعله مكاناً أفضل وأكثر عدلاً.
آخرون قلدوا خوليت وساروا في دربه، أو سبقوه بخلطهم السياسة بالرياضة. بطل العالم 1998، الفرنسي "ليليان تورام" أسس منظمة لمناهضة العنصرية. أسطورة نادي تشيلسي، ديدييه دروغبا تدخل لإيقاف الحرب الأهلية في ساحل العاج.
"سقراطيس"، أحد مؤسسي حركة "كورنثيانز الديمقراطية" ومن أشهر معارضي الحكم العسكري لبلاد السامبا ودفع ثمناً غالياً وضريبة كبيرة على تلك المواقف.
الآن، صار إبداء التعاطف الإنساني أسهل، كل ما يحتاج إليه اللاعب هو حساب على فيسبوك أو تويتر أو إنستغرام حتى يعلم العالم موقف "النجم" مما يجري في هذه البقعة الأرضية أو تلك. وصار -أي التعاطف- أقل ثمناً، فلا أحد يستطيع اعتقال أي لاعب عالمي أو إخفاءه قسرياً، فلن تقبل الجماهير ولا الشركات الراعية ذلك. ولا توجد سلطة سياسية غبية بما فيه الكفاية للإقدام على تلك الحماقة.
لذلك وحتى اللحظة، وبينما تتعرض القدس الشريفة وغزة والشيخ جراح للعدوان الصهيوني، ويحاول الاحتلال ودولته العنصرية طرد السكان الأصليين من أراضيهم وتجريف البلد من أهله، وطمس هويته، وإخفاء وجهه العربي خلف القضبان، ليمنح بيوته وأراضيه لمستوطنين جاؤوا من جورجيا أو إثيوبيا، رأينا العديد من المواقف المشرفة للاعبي كرة قدم عالميين لنصرة القضية الفلسطينية سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو على أرضية الميدان. بطل العالم والنجم العالمي بول بوغبا وزميله اليافع في نادي مانشستر يونايتد أمادو ديالو رفعا علم فلسطين وطافا به في "مسرح الأحلام"، ملعب أولد ترافورد. قبلهما، احتفل الإنجليزي من أصول بنغالية، حمزة شودري وزميله ويسلي فونانا بالفوز بكأس الاتحاد الإنجليزي في أعرق ملاعب العالم، ويمبلي، وعلم فلسطين يزيّنهما. لاعبون عالميون آخرون قرروا التضامن والتعبير بوضوح عن موقفهم الداعم لقضية فلسطين العادلة، لكن عبر حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل الجزائري رياض محرز والسنغالي ساديو ماني والمصري محمد النني والفرنسي إيريك كانوتيه وكوكبة من النجوم العالميين الحاليين والسابقين.
ولكل الأسباب التي ذكرتها، تنتظر الجماهير دائماً كلمة وموقفاً داعماً لها في قضاياها من نجومها. فالنجم، خاصة شديد النجاح، القادم من بلاد يجتاحها الفقر، يتجاوز حدود النموذج ليكون حلماً وقدوة. وأن تكون قدوة لجماهير تعاني من ضغوط حياتية قاسية ومن كبت وقهر سياسي، يعني أن عليك واجباً في التعبير عن المشاعر وما يختلج في صدور تلك الجماهير ولا تقدر أن تنطق به أو لن تسمع أحداً إذا هي نادت. لا أحد يؤذي النجوم، تخاف السلطة من "زعلهم" فـ"تبلع لهم الزلط"، ولا تتصادم معهم الشركات الراعية فتدير وجهها الجهة الأخرى عندما يأخذون موقفاً سياسياً ولن يضحي النادي بنجمه الذي يدر عليه الملايين بسبب تغريدة أو رفعه لعلم دولة تصارع الاحتلال.
ختاماً، كانت جنوب إفريقيا محظوظة بإخلاص خوليت لقضيته، والبرازيل بجرأة سقراطس وديمقراطيته، وساحل العاج بدروغبا وفعاليته أمام المرمى وأمام الحرب الأهلية، والجزائر لها أن تفخر برياض محرز، ومصر محظوظة بمحمد النني ومحمد أبوتريكة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.