يرتقب أن تبدأ محاكمة عدد من مناضلي تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد منتصف الأسبوع المقبل، عقب أحداث الأسبوع الأسود، بعد أن تم اعتقالهم، ثم متابعتهم بعد ذلك في حالة سراح، واتهامهم بخرق حالة الطوارئ الصحية والتجمهر غير المسلح، وإيذاء عناصر القوى القمعية وإهانتها، وغيرها من التهم الرامية للنَّيل من نضالاتهم، والداعمة لرواية الدولة، والمشرعنة لتجاوزات أجهزتها العنيفة.
تلك المحاكمات ليست الأولى، فقد سبقها عدد من المحاكمات وقد تتبعها أخرى، غير أن الفرق بينها وبين محاكمات 20 و27 مايو (أيار) هي أنها وإن كانت كلها متابعات كيدية تهدف إلى ضرب جسم استعصى على الإلغاء هي أيضاً استفزازية، ومنطقها مقلوب رأساً على عقب؛ كونها جاءت بعدما شهد العالم بأسره فصولاً من التنكيل الوحشي بمتظاهرين سلميين ينتمون إلى شريحة "مثقفة" ذات مكانة اعتبارية؛ كونهم يمثلون هيئة التربية والتعليم.
فعِوض إعادة الاعتبار لهم والاعتذار عما بدر منها تجاههم، أو على الأقل الكفّ عن أذاهم، تمادت السلطة في غيّها، عبر انتقائها لبعضهم وتعنيفها لهم، ولم تكتفِ بذلك، فاعتقلتهم وزجّت بهم إلى جانب المجرمين وأصحاب السوابق، وأصرت على متابعتهم بعد ذلك، في سلوك سادي قلما تجد له مثيلاً في غير الدولة المخزنية ومن على شاكلتها.
المعضلة في ذلك الشبق السلطوي الذي يكتسح مناحي حياة المغاربة المختلفة أنه يعبر عن حالة مرضية، ناجمة عن عقدة نقص تجاه كل من يقول لا، حيث تعتبرها السلطة إهانة بالغة لها، تستدعي تأديب صاحبها، وبما أن تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد قد تحدت إرادتها، وواجهت مخططاتها، فقد نالها نصيب كبير من انتهاكاتها، وبما أن مناضليها صمدوا ولم يخضعوا ولم يحنوا رؤوسهم، وحيث إنهم تسببوا في فضحهم، وخلق موجات واسعة من التضامن معهم، فقد كان هذا سبباً إضافياً ليستحقوا أن يُعاقَبوا وأن تُمدد معاناتهم.
نحن أمام محاكمات هزلية، ففي الوقت الذي يُنتظر من الدولة وأجهزتها فيه أن تعيد للضحية حقها فإنها تهاجمها وتتهمها، وتُمعن في إهانتها؛ لأن أولويتها هي حماية عناصرها ومسؤوليهم مهما كانت تبعات سلوكها هذا، فهي تختصر الدولة في الدفاع عن أذرعها "الأمنية" ولا شيء غير ذلك، ومبدأ الاحترام لا تعترف به الدولة إلا لمسؤوليها وأجهزتها، فهو امتياز حصري لهم دون غيرهم، أما المواطن المقهور فلا حظ له من ذلك الاحترام، فهو وجد في الدولة المخزنية لتنتهك كرامته، حتى لو كان يدرّس لأبناء المغاربة ويرفع عنهم ظلام الجهل.
لذلك فإنها تضرب عرض الحائط بالمنطق لقاء هدفها هذا، حيث تعبث بالقوانين وتكيّف الوقائع لصالحها، فيمكن للمتظاهر السلمي الذي يمارس حقه الدستوري والأخلاقي أن يجد نفسه خارج دائرة القانون بفرمان سلطوي، ويمكن للسلطة أن تُغمض عينها عن كل التجمعات والحشود في الأسواق وفي غيرها، ولا تستهدف إلا المظاهرات، حتى لو احترمت التباعد وكل المعايير، فالملاحظ أن عناصرها هم الذين يلتصقون بالمحتجين، وهم من يخرقون البروتوكول الصحي، ويتسببون في حالة الهرج والمرج الناجمة عن تدخلهم.
الواقع أن المناضلين المعروضين على المحاكم في الأيام المقبلة هم مَن سيحاكِمون الدولة وليس العكس، فمجرد عرضهم على المحكمة هو تذكير لمن نسي بأحداث القمع الأسود الأخير، وهو إدانة للسلطة ولسلوكها الوحشي معهم، وهو أيضاً تأكيد لمظلوميتهم الناصعة منذ بداية ملفهم إلى اليوم، فهم سيحاكمونها على قتلها لشهيد تنسيقيتهم وتنصلها من مسؤوليتها عن جريمتها بحقه، وسيقاضونها أيضاً على إذلالها لهم بعقود الإذعان والعبودية، والتي لا يستسيغها أي حر، وسيحاسبونها على عبثها بقطاع التعليم، ومخططاتها التخريبية له وتفكيكها للمدرسة العمومية.
لا مصلحة أبداً للسلطة فيما تصنعه بهذا الملف، الذي طال أكثر من اللازم، والذي سيرتد عليها بعد نفاد مسكنات الحجر الصحي، وحسبها ما حدث لها في موضوع التطبيع، بعد عجزها عن التحكم في المزاج الشعبي الذي انتفض كما لم ينتفض من قبل بانتزاعه الحق في التظاهر، لذلك فإن الأساتذة الذين واجهوا جبروتها في ذروته لن يسلموا لها الراية البيضاء في فترات اليقظة، ولن يترهل صفّهم ما دامت هناك محاكمات ومتابعات وتعسفات بحق صفوة مناضليهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.