"سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حولة لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" (الآية 1 سورة الإسراء).
هنا بدأت حكاية بيت المقدس مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم عندما نزلت الآية قبل هجرة النبي وسُمي المسجد الأقصى باسمه وبوركت الأرض التي حوله –أرض فلسطين- من رب العزة في القرآن الكريم المعجزة الخالدة إلى يوم الدين، حينها أصبح الأقصى والأرض المباركة جزءاً من عقيدتنا الإسلامية، والدفاع عنهما وعن حرمتهما واجب كل مسلم يوحد الله عربياً كان أم أعجمياً، وبُنيت الحضارة الإسلامية وقَويت جيوشها والكل مُتطلع إلى مسرى النبي، حيث فتحها عمر رضي الله عنه، ثم فتحها صلاح الدين الأيوبي الكردي وحماها المماليك ثم العثمانيون، فالأمة الإسلامية نالت شرف حماية الأقصى والأرض المباركة على مر تاريخها، وعهدت على نفسها حماية المقدسات بدم أبنائها، وأبت إلا أن تدفع الثمن غالياً في سبيلها.
انهارت الخلافة العثمانية وتمزقت الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبحنا نتحدث عن القومية العربية وليس الأمة الإسلامية، وأصبحت فلسطين عربية وليست إسلامية، ونسينا أوجاع وشتات إخواننا العجم، وتفاخرنا بقومتينا العربية، وحَّدنا الإسلام وفرقتنا القوميات، وعدنا لعصر الجاهلية نعاير بعضنا البعض، أنا عربي وأنت أعجمي، وانقضت علينا الضباع من كل حدب وصوب، تقتات من شتاتنا وصراعاتنا الجاهلية، ونسينا أن اللغة العربية شرَّفها القرآن أن نزل بها، وشرف لنا أن تكون لساننا، لكن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولو بلسان أعجمي أشرف من كل لسان عربي فصيح.
تضخمت الأنا العربية في نفس سكان الجزيرة العربية، فذهب بيت المقدس ثمناً لعصبيات وصراعات لا طائل منها، قامت الثورة العربية الكبرى، وسالت الدماء وبيعت فلسطين بثمن بخس مقابل عدد من الكراسي المهترئة وسقطت الأقنعة وحوربت القضية في نفوس الشعوب الإسلامية بشتى الوسائل، وانكمش كل قوم على أنفسهم، فأصبح كل جزء من الأمة الممزقة مجبراً على أن يواجه مصيره بنفسه، وبات انتظار نصر الأمة لهم ما هو إلا انتظار ميت أن يقوم من القبر ليُعينهم، فلا مفر للمسلمين المشتتين في فلسطين والقوقاز وتركستان والشيشان والشرق الأوسط أن يدافعوا عن أنفسهم ولو بالحجارة.
هناك في فلسطين أرض التناقضات تستمر حياتهم رغم شدة العدوان والقصف تُشيع جنازة هنا ويولد طفل بالجوار، وقد تجد زفة عريس في الحي الخلفي هي حياتهم لن توقفها الغارات، ولا تنتظر قلق لا العرب ولا مجلس الأمن الدولي يعيشون الاختبار، ويعرفون أن الفرج آت لا محالة، فلا طائل من اللطم والعويل، هناك بصيص الأمل للأمة جمعاء، هناك الأرض المباركة تقف حرة أبية محاصرة ووحيدة، ناشدتنا بحق الآيات التي نزلت فيها فوقفنا عاجزين نشاهدها، ولا حيلة بيدنا نصارع الفقر والجوع والذل والمهانة كي نعيش، ووقفت هي شامخة ووحيدة في وجه كل مِدفع تُصارع الظلم والغدر، لكنها لم تُذل كما أذللنا، ولم تُخفض رأسها من المهانة كما فعلنا، فقد تخلينا وقصّرنا وسكت الكثير منا عن الخيانة ولم يتوانوا عن تبريرها، ومنذ متى يبرر المذنب خطأه، شرفه في الاعتراف والتوبة فقط.
وعندما نظن أن الأمة تموت ولن تنهض مجدداً، نسمع نبض قلبها يدوي في كل أصقاع الأرض ليُحيي الأمة الإسلامية جمعاء في مشارق الأرض ومغاربها، بغض النظر عن العرق واللون واللغة هي القلب النابض الذي رغم نزيفه وآلامه يضخ فينا دماء نصرة القضية والدعاء لها، و رغم عجزنا تعيد إحياءنا بعد أن غرقنا في مشاكلنا الفردية وهموم حياتنا وقد أجهز الاكتئاب على أنفسنا، فأشعلت فينا فتيل الغضب لقضية أكبر وأعمق من كل قضايانا الفردية، وأبصرنا أوجاعاً أعظم من أوجاعنا بكثير، تعلقت قلوبنا بالقدس وسال دمعنا وإخواننا تحت القصف مرابطين مجاهدين، أبصرنا أوجاع غزة تحت القصف، وهي صغيرة ووحيدة ومُحاصرة تدفع الفاتورة نيابة عن الأمة الإسلامية جمعاء، وتأبى إلا أن تنتفض وتعلن أن أمة الإسلام لم ولن تموت إلى حين. فيا رب، يا الله، اغفر ضعف حيلتنا وتقصيرنا في حق بيتك المقدس وأرضك المباركة، وانصرهم وثبت أقدامهم، ومتعهم بجنانك، فلا غالب إلا أنت.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.