يعيش لبنان منذ أكثر من سنة تداعيات انهيار النظام السياسي-الاقتصادي الذي رُسِّي منذ نهاية الحرب، وتكشّف بداية بإفلاس القطاع المالي وانهيار سعر الصرف، وما تبعهما من انهيارات مُتتالية تُهدد المجتمع ببقائه، إذ يجمع كثيرون على أنها شبيهة بالأوضاع التي سبقت اندلاع الحرب عام 1975، لا بل أصعب وأشدّ خطورة منها.
لم تأتِ هذه الأزمة وليدة صدفة، بل نتاج سياسات اتُبعت على مدار عقود، وراكمت حجماً هائلاً من الخسائر المالية على شكل ودائع مصرفية، وخسائر اقتصادية تمثّلت بضحالة القاعدة الإنتاجية وعدم وجود تراكم رأسمالي حقيقي، والأهمّ خسائر بشرية يُعبّر عنها بهجرة بنحو 850 ألف شابٍ وشابّة منذ نهاية الحرب. وترافق ذلك مع اهتراء الدولة وتفكّكها بما حال دون قيامها بوظائفها المُفترضة في تأمين رفاهية المجتمع واستقراره خدمة لمصالح راسخة تعزّزت منافعها وساهمت بنقل الثروة من الأكثرية إلى قلّة.
ووفق تقرير صادر عن مرصد الأزمة في الجامعة الأمريكية في بيروت، فإن النظام اللبناني يعيش على مراكمة عنصرين: الودائع والمهاجرين، من دون القيام بأي مسعى لبناء اقتصاد مُنتج يوفّر حاجات المجتمع، أو تطوير أي قطاع وتحسينه، أو حتّى توفير الخدمات العامّة من طبابة وتعليم وسكن ونقل مشترك. وأمام الخلل الذي أصاب استدامة التراكم في العنصر الأول، انهار النظام، ودخل لبنان في أزمة هي الأكبر في تاريخه تهدّد مجتمعه بالتبدّد نتيجة ارتفاع مستويات الفقر والهجرة المتوقّعة، فيما موارده مستنفدة، سواء رأس المال المالي المُمكن توظيفه في استثمارات مُنتجة، أو رأس المال البشري المُمكن استخدامه في العمل والإنتاج لتطوير الاقتصاد وبناء قاعدة إنتاجية. وأكثر من ذلك تعيش البلاد في تخبّط نتيجة نظام سياسي قائم على التحاصص يرعاه ائتلاف بين زعماء الطوائف وأصحاب المصالح، وهو عاجز عن اتخاذ أي قرار سعياً إلى حلّ، أي الاعتراف بأسباب الأزمة والتعامل مع نتائجها بما يمنع تكرارها، وبالتالي التأسيس لنظام سياسي–اقتصادي قابل للحياة والاستدامة ويضمن ظروف عيش كريمة للمقيمين.
ما الذي يحمله عام 2021 وما بعده؟
وفق التقرير الصادر عن مرصد الأزمة، فإنه تتسارع حالياً تداعيات الأزمة مع استنزاف ما تبقى من موارد مالية مُتاحة يمكن استخدامها في عملية النهوض، فضلاً عن ترجيح تفاقمها بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية، وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وانقطاع الكثير من السلع، وتوقّف العديد من الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والنقل، فضلاً عن تدحرج المجتمع، ولا سيّما ذوي الدخل بالليرة اللبنانية، إلى مستويات أعمق من الفقر. مع ما قد يتبع كلّ ذلك من حوادث اجتماعية وأمنية عنفية خطيرة، في مقابل تفريغ المجتمع من طاقاته ومهاراته عبر نزيف الهجرة المتوقّع مع عودة الاقتصادات العالمية والإقليمية إلى دورتها الاقتصادية بعد الانتهاء من احتواء أزمة كورونا. ومن ضمن التداعيات الكبيرة المتوقّعة، تبرز خمس قضايا يجب ترقّبها ومقاربتها.
زيادة كبيرة في معدّلي البطالة والفقر
يتوقع المرصد في تقريره الذي نشره قبل أيام قليلة أن يؤدّي التدهور الاقتصادي مصحوباً بالتضخّم إلى إغلاق المزيد من المؤسّسات وتوقّف العديد من القطاعات، وهو ما يعني فقدان العديد من فرص العمل، القليلة بالأساس، وارتفاع معدّل البطالة وتدني القوّة الشرائية وارتفاع معدّل الفقر.
يتوقّع البنك الدولي أن يرتفع معدّل الفقر ليطال أكثر من نصف السكّان خلال عام 2021، وهو ما يتوافق مع توقّعات الإسكوا التي أشارت إلى ارتفاع معدّل الفقر من 28% إلى 55% بين عامي 2019 و2020، وبلوغ العدد الإجمالي للفقراء بحسب خطّ الفقر الأعلى نحو 2.7 مليون نسمة. إلى ذلك، تشير استطلاعات Inforpo" إلى تخطّي معدّل البطالة نسبة 30% في عام 2020، بعد أن أغلقت 18% من الشركات خلال النصف الأول من عام 2020، وفقدان نحو 350 ألف شخص يعملون في القطاع الخاص وظائفهم بسبب الركود الاقتصادي والاحتجاجات ووباء كورونا.
فيما أشارت إحصاءات أعدّتها "الدولية للمعلومات" إلى لجوء المؤسّسات التي استمرّت بعملها إلى تخفيض رواتب موظّفيها بنسبة تراوح بين 20 و80%، وهؤلاء يقدّر عددهم بـ 212 ألف شخص، ومن المرجّح أن يفقد كثير منهم عملهم خلال هذا العام.
تأزم أوضاع القطاع الصحّي وهجرة العاملين فيه
ووفق التقرير الصادر عن المرصد، تُعدُّ الهجرة سمة بارزة في الاقتصاد اللبناني، إذ ساهمت باستنزاف القوى العاملة على مرّ عقود، وهو ما يتوقّع استمراره نتيجة الأزمة الراهنة، إلّا أن بعض القطاعات مُهدّدة أكثر من غيرها بتفريغها من قواها العاملة، ولا سيّما القطاع الطبّي، بما يُهدّد بفشل احتواء جائحة كورونا، وتراجع الخدمات الطبية، وخسارة لبنان دوره الرائد كـ"مستشفى الشرق الأوسط".
لطالما رُدِّدت عبارة "نحن نموت أمام أبواب المستشفيات" للدلالة إلى غلاء الخدمات الطّبية بسبب عدم وجود طبابة مجّانية تضمن الحقّ بالصحّة لجميع المقيمين في مقابل تسليع هذا الحقّ خدمة لمصالح خاصّة. أمّا الآن فقد تتحوّل هذه العبارة إلى سمة يومية بسبب هجرة العاملين الصحّيين ذوي الخبرة وبالتالي تدني نوعيّة الخدمات المقدّمة، فضلاً عن تراجع القدرة على استيراد المعدّات الطبّية والأدوية لتأمين العلاجات بسبب شحّ العملات الأجنبية، بالإضافة إلى ارتفاع البطالة وانخفاض قيمة الأجور بما يصعّب إمكانية دفع تكاليف الرعاية الصحّية في ظلّ غياب الطبابة المجّانية.
صرّحت نقابة الأطباء عن هجرة نحو 400 طبيب في العام 2020 وارتفاع العدد إلى 600 طبيب بحلول فبراير/شباط 2021، فيما أشارت نقابة الممرّضات والممرّضين إلى هجرة جماعية يشهدها القطاع التمريضي حيث أصبح هنالك ممرّض/ة لكلّ 20 مريضاً. يأتي ذلك نتيجة التراجع الهائل في قيمة الرواتب التي خسرت 80% من قيمتها عدا عن التأخّر في دفعها، بالإضافة الى تراجع قدرة المستشفيات على التوظيف وصرف أكثر من 40% من الطواقم التمريضية وخفض رواتب من بقي منهم، فضلاً عن عدم حصولها على ديونها المستحقّة من الحكومة اللبنانية ومؤسّساتها وتزيد على 2500 مليار ليرة لبنانية,
تدهور مستوى التعليم
بعد عقود من حصر تقديم التعليم الجيّد بالمدارس والجامعات الخاصّة، وبالتالي إمكانية الحصول عليه بمن يملك ثمنه أو لديه القدرة على الاستدانة، في مقابل إهمال التعليم الرسمي وإفراغه من أي أهداف اقتصادية أو سياسية، تأتي الأزمة الراهنة لتهدم هذا النظام أيضاً، نتيجة تراجع قدرة العائلات على تعليم أبنائها في المدارس والجامعات الخاصّة، ونضوب الموارد المالية المُتاحة للاستدانة ودعم الطلب على هذا التعليم، فضلاً عن تفريغ هذه المؤسّسات الخاصّة من كوادرها وتراجع مستوياتها نتيجة تراجع الأجور وتدحرج الانهيار.
خضع التعليم المدرسي والجامعي في لبنان لمنطق السوق أسوة بكلّ الخدمات العامّة التي تخلّت الدولة عن مسؤوليّة تأمينها، وجيّرتها إلى القطاع الخاصّ الذي حوّلها إلى أداة لمراكمة الأرباح. هذا الواقع، جعل التعليم وسيلة لتجذير التفاوتات الطبقية وتنخيب التعليم الجيّد وحصره بمن يملك ثمنه، فضلاً عن تحويله إلى وسيلة للحصول على التدفّقات النقدية الخارجية، خصوصاً أن الاقتصاد اللبناني لا يُنتِج وظائف كافية لمجمل طالبي العمل، وقام على مراكمة مخزون المهاجرين سعياً وراء تحويلاتهم إلى أسرهم، بحيث أصبح اكتساب التعليم الجيّد هدف الأسر اللبنانية لتحسين فرص أولادها بالهجرة والحصول على وظائف أفضل.
حالياً تلقي الأزمة الاقتصادية بثقلها على القطاع التعليمي من زوايا عدّة؛ من ناحية يواجه الأطفال الأكثر هشاشة، بمن فيهم أطفال الأسر الفقيرة واللاجئين، خطر التسرّب من المدرسة وارتفاع عمالة الأطفال وفقاً لمنظّمة "أنقذوا الأطفال"، التي قدرّت خروج أكثر من 1.2 مليون طفل من المدارس في عام واحد.
ويشهد التعليم نزوحاً من المدارس الخاصّة إلى الرسمية، فوفقاً لدراسة صادرة عن المركز التربوي للبحوث والإنماء، ارتفع المعدّل السنوي للمُسجّلين الجدد في التعليم الرسمي بنحو 8051 تلميذاً بين العامين الدراسيين 2016-2017 و2019-2020، في مقابل تراجع المعدّل السنوي للمسجّلين في التعليم الخاص بنحو 2228 تلميذاً خلال الفترة نفسها.
أيضاً لم يكن التعليم الجامعي بمنأى عن التدهور، إذ عجز العديد من الطلاب عن التسجيل في الجامعات الخاصّة لعدم تمكّنهم من دفع أقساطهم، بعد أن عمدت هذه الأخيرة إلى إصدار قرارات بوجوب دفع الأقساط بالدولار الأمريكي أو بالليرة اللبنانية على سعر صرف أعلى من السعر الرسمي، وترافق ذلك مع عدم إمكانية الجامعة اللبنانية على تحمّل نزوح الطلاب من الجامعات الخاصّة إليها، والأمر نفسه ينطبق على التعليم في الخارج بسبب إفلاس المصارف.
زيادة التوترات الاجتماعية والعنف ومعدّلات الجريمة
خلال فترة الكساد الكبير في عام 1929 في الولايات المّتحدة كان الناس يرمون أنفسهم من النوافذ انتحاراً نتيجة تنامي معدّلي الفقر والبطالة، فيما نشط عمل المافيات والجريمة المنظّمة والسرقات. هذه السيناريوهات تكاد تكون واحدة في معظم المجتمعات التي تشهد أزمات اقتصادية، وهو ما يرجّح حصوله في لبنان أيضاً.
تشتدّ الأوضاع الأمنية في لبنان سوءاً مع تفاقم الأزمة، فوفقاً للإحصائيات الصادرة عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، ارتفعت نسبة السرقات بنحو 57% بين العامين 2019 و2020، وبنسبة 162% في الربع الأول من العام 2021 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. أمّا جرائم القتل فقد ارتفعت بنسبة 91% بين العامين 2019 و2020، ونحو 2.4% في الربع الأول من العام 2021 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2020.
إلى ذلك، سُجِّل ارتفاع في حالات العنف ضدّ النساء والفتيات؛ حيث أشار مسح أجرته مجموعة العمل المُشترك بين الوكالات المعنية بالعنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي التابعة للأمم المتّحدة إلى أن 54% من النساء والفيتات اللواتي شاركن في المسح لاحظن زيادة في العنف ضدّ نساء وفتيات أخريات ضمن أسرهن أو مجتمعاتهن المحلّية، فيما شهد الربع الأول من العام 2020، أي قبل إعلان التعبئة العامّة للحدّ من تفشّي جائحة كوفيد-19، ارتفاعاً مُقلقاً في حالات العنف الأسري التي وصلت إلى 69% وفق نظام الرصد الدولي للعنف القائم على النوع الاجتماعي.
تنامي النزعة الانفصالية وتعميق سياسات الهوية
خلال الأزمات العميقة، تبرز غالباً النزعات القومية والانعزالية، وأخطرها تلك التي تعبّر عنها التنظيمات السياسية اليمينية والشعبوية، نظراً لقدرتها على حرف الخطاب العام عن أسباب المشكلة نحو النتائج التي أوصلت إليها، بما يؤدّي إلى تكرار الوقوع في المشكلة نفسها.
نتيجة الإفلاس وبالتالي انهيار بعض محرّكات عمل النظام السياسي القائم على تحويل الدولة إلى أداة لإعادة التوزيع والزبائنية، يشهد لبنان تنامياً ملحوظاً في النزعات الانعزالية أو الشعبوية التي يُعبَّر عنها حيناً بالفيدرالية وحيناً آخر باللامركزية، باعتبارها من الأشكال التنظيمية المُمكنة لإدارة شؤون هذا المجتمع. تأتي هذه الطروحات خارج تعاريفها المُجرّدة وما يمكن أن تؤدّيه إنمائياً، بل من منطلق طائفي ومناطقي يعمّق سياسات الهوية، ما يحرف التركيز عن أسباب الأزمات بما تنطوي عليه من مصالح طبقية مُتضاربة وتفاوتات تعمّق اللامساواة وتجذّر آليّات الاستغلال وانعدام الحقوق، ويعيق بناء نظام سياسي ينتج نظاماً اقتصادياً قابلاً للحياة ويحمي المجتمع.
تُطرح الفيدرالية كحلّ يفصل الطوائف عن بعضها اجتماعياً ضمن مناطق مُستقلّة يكون لكلّ منها حرّية اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات التي تلائمها مع حصر القرارات المرتبطة بالسياسات الخارجية والدفاعية والنقدية لدى السلطة المركزية، إلّا أن تشريح الاختلافات بين الطوائف أو بالأحرى زعمائها يبيّن أنها تتركّز على السياستين الخارجية والدفاعية، لا السياسات الاجتماعية والاقتصادية، التي أثبت مسار 30 عاماً من حكم ائتلاف زعماء الطوائف اتفاقهم عليها وتنصّلهم من مسؤولياتهم في تشريعها، وهو ما يجعل الفيدرالية حلاً لا يتماشى مع طبيعة المشكلة.
أمّا اللامركزية فتطرح كحلّ لتحقيق الإنماء المتوازن بين المناطق كونها تعطي السلطات المحلّية صلاحيّات أكبر في تنفيذ المشاريع الاقتصادية والإنمائية بعد أن أهملت دولة ما بعد الحرب هذا الواجب. لكن ما يغفله مؤيّدو هذا الطرح هو تجسّد اللامركزية في لبنان بالبلديات، التي صدر قانون تنظيمها منذ العام 1977 وأعطاها صلاحيّات واسعة في المجالات الإنمائية والاقتصادية، إلّا أن الفشل في تطبيقه جاء بداية نتيجة الحرب، ولاحقاً بسبب عدم بناء قدراتها المؤسّساتية لأداء مهمّاتها. في الواقع، يقوم التوازن بالإنماء على إعادة توزيع المداخيل الضريبية والثروة الوطنية بين مختلف المناطق، لمساعدة المناطق الأقل تطوّراً والتي لا تمتلك موارد كافية للقيام بالمشاريع الإنمائية، وهو ما يتطلّب أساساً وجود دولة مركزية قوّية لديها رؤية وخطّة، ومداخيل ضريبية كافية وقدرة على إعادة توزيعها بما يخدم أهدافها الإنمائية، وقد تكون اللامركزية إحدى هذه الوسائل لا الغاية بذاتها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.