تبدأ "الدم والحليب" من اليوم الأول الذي قرر فيه "حسون ابن صفية بنت حزقيال بن ميمون القداح"، أو كما هو منسوب لأبيه "حسون بن عبدالله بن إسماعيل بن شمس القرشي" سرد الحكاية. الحكاية التي سيتغير فيها كل شيء إلا وجود بطلها علی سطح الأرض التي لا تعرف الهدوء.
"كلهم يموتون بعدما يتعلق بهم قلبي، يجعلوني أُحبهم، ثُم يغرزون سكين الفقد في عمق روحي بلا رحمة".
يحكي "محمد الجيزاوي" في أحدث أعماله "الدم والحليب" عن "حسون" الطفل الذي نتج عن زواج رجل مسلم بامرأة يهودية بعدما وقع الرجل اليمني في حب ابنة تاجر الخناجر. الزواج الذي نتج عنه ولادة "حسون" بعد حمل دام لسنتين وسبعة أشهر كان هو شرارة جذوة النيران التي ستظل مشتعلة على مدار 2700 عام شهدها "حسون" وشاهد فيها كل شيء على الأرض في كل أقطارها، بداية من حروب العرب وإسرائيل حتى فناء البشرية كلها.
"الدم والحليب" التي تمت كتابتها في "381" صفحة يصعب تصنيفها بشكل دقيق، فتارة تجد أحداثها تدور في صحراء جدباء فتقرر وصفها علی أنها رواية ذات مفردات جبلية ثقيلة تدور حول طبيعة الرمال والصحراء المقفرة، وتارة تجد أحداثها تقع في معابد اليهود ودولة إسرائيل التي تقوم بعد الحرب وتفنی بعد مئة عام بعدما تبوء كل المحاولات في البحث عن "حسون" المسيح المخلص بالفشل، وتارة تجدها رواية رومانسية يقع بطلها في حب امرأة مسلمة ويتزوجها علی دين أبيه ويعيش في سلام ليحكي عن طيبة الحياة وروعتها مع من نحب، ثم ما أن تعتاد علی الأحداث فتنقلب رأساً علی عقب فيرتحل بطلها من الشمال إلی الجنوب ومن المشرق حتی المغرب كي يخفف من وطأة حزنه ويداوي روحه التي أتعبها الفقد ورحيل الأحباب.
بتفكيك الحكاية والنظر في عمقها نری تقلب أحداث العالم وتبدل حاله، نری وجه بطلها الذي لا يشيخ رغم شيخوخة من حوله، نری الموت الذي يجتث بمنجله أرواح كل من هم حول حياة "حسون" الذي شاء ربه ألا يموت وأن يكون شاهداً علی موت العالم من حوله.
تتعمق "الدم والحليب" في الصراع العربي الإسرائيلي، وصراع حسون نفسه بين عربية أبيه وعبرانية أمه التي تركته رغماً عنها بعدما تعبت روحها من تعب ابنها وبفعل الزمن الذي يزحف بلا رحمة ليقتنص حياة كل من يأتي أجلهم.
يأتي دور "حسون" ليعيش التجربة بكل ما فيها، لينغمس في العالم ويعرف الخير والشر، ليقع في الشر بإرادته، ليعرف طعم الخطيئة ويتذوق مذاق الشهوة الشهي الذي ظن أنه لن يمد يده إليه ليدرك قيمة الحياة ويعيش حياة الإنسان الذي لا يشيخ، يزهد ويعرف طعم الزهد ويتعلق قلبه برفيق روحه الشيخ "التيجاني" فيعلمه أن يغلق عينيه ويفتح عين قلبه التي تنير بصيرته التي لا تری إلا الضباب وسط حياة مشطورة بين دينين وحياتين وقلب معلق بإله له كتابان كانا من نصيب حسون الذي لا يعرف ضد من يحارب وضد من ينتصر، أينتصر الرجل لدين أبيه أمام قوم أمه، أم يحارب من أجل أن ينصر قوم أمه علی قوم أبيه، ماذا يفعل المرء إذا توجب عليه أن يكون القاتل والمقتول في آنٍ واحدٍ؟!
"أنتظر نهاية كل شيء، وما من يدٍ تمسك يدي حين تأتي ساعتي، ولا أحد يبكي لأجلي، أو يحملني إلی قبرٍ يواري فيه جسدي".
رواية الدم والحليب
تحمل الرواية رمزية خلق الله لآدم، بكل ما فيها من كبد وشقاء، بكل ما في الوجود من ألم الفقد والمعاناة، وكل ما في الرحلة من ملذات وخسائر يمر بها ابن آدم طوال حياته.
تتحدث "الدم والحليب" في النصف الثاني منها عن علاقة العلم بالدين، عن صراع العلم مع الدين، الصراع الذي لا يشهد العالم أي نتيجة حاسمة له، إذ إنه وعلی مر الزمان لم يشهد العالم أي هُدنة بين رجال العلم ورجال الدين وكأنه يجب أن يكفر أحدهم بالآخر كُفرًا مطلقاً كي يثبت صحة منهجه.
يخضع "حسون" أو "يونان" أو "عبدالله" إلی الفحوصات والتحاليل الطويلة في محاولة لإدراك ماهية هذا الرجل الذي لا يشيب رغم مرور الزمان وغدره، الرجل الذي يشهد الحرب بالخنجر والسيف وأسلحة الدمار العلمية، الذي يشهد قتال العرب ضد اليهود، وحرب رجال الكنيسة أمام الملحدين لا تصل الأبحاث المستمرة عليه لأي نتيجة، وكذلك لا يصل "حسون" لأي غاية، يزهد في الطريقة وفي الطريق، يهجر الناس ويلوذ بالمسجد حتی يظن أنه وجد الخلاص وما أن يعود لمخالطة الناس حتی يدرك آفته ككل البشر الخطائين.
"لا بأس، ستنسين، سيَمُر الوقت وتصبح آلامكِ لصيقة بروحك حتی تألفها ولا تشعر بها، ثم يتلاشی الحزن ويصيب البرد قلبك".
"الدم والحليب" بين الواقعية والغرائبية
"الدم والحليب" في نصفها الأول الذي عاصرناه وقرأنا عنه في كتب التاريخ حقيقية من حيث الزمان والمكان والأحداث التي شاهدناها، حيادية بقدر الإمكان بكل ما يتعلق بالصراعات التي شهدها العالم من حروب وثورات، حتی تظن أن "حسون" بطلها ابن من أبناء عالمنا بالفعل. نجح "الجيزاوي" في سرد النصف الأول بتعمق وحياد، ذكر الأماكن الحقيقية في اليمن وفلسطين وإسرائيل أرض اليهود المزعومة وصولاً لمصر وجبل الرب في سيناء ثم في تونس، وهذا ما قد منح الرواية رونقها الخاص ليمسك القارئ بطرف الخيط الذي سيصل به إلی النصف الثاني المُتخيل بعدما امتدت حياة حسون لقرونٍ طويلة لم نشهدها ولكن شهدها "محمد الجيزاوي" بخيال ونضج مكنه من كتابة النصف الثاني من الرواية دون إخلال بالبناء الروائي الذي أعده وأحسن صنعه ليصمد أمام سريالية الأحداث وغرائبيتها في شطر الحكاية الثاني.
الرواية من حيث اللغة تنوعت بتنوع بيئتها، تجدها ثقيلة حارقة كشمس الصحراء حينما يعتصم حسون بالجبل، ثم تجدها شديدة العذوبة حينما يكتب "حسون" عن أمه "صفية" الصافية كالماء والوديعة الخائفة علی ولدها ككل الأمهات، المرأة العاشقة التي وقعت في حب "عبدالله" الذي ناجی ربه في السجن أن يستر زوجته فسترها وحفظ السر في بطن زوجته لعامين وسبعة أشهر!
قدرة الجيزاوي كحكاء لا يُقارن تبرز في تمكنه من الحفاظ علی نسق الحكاية رغم طول صفحاتها، لا يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة بطل حكايته دون أن يذكرها الرجل الذي يموت كل من حوله ولا يموت هو.
فلسفة ومعضلة
الرواية المليئة بالرمزيات كبحرٍ تری أوله ولا تری آخره لم تترك معضلة قرار الاستمرار في الحياة من عدمه دون أن يتجه إليه الكاتب، فبرغم إدراك حسون أنه رجل لا يموت بسبب الحلم القديم الذي رأی نفسه فيه يشرب من كأسي الحليب والدم، فإنه لم يُقدم علی إنهاء حياته ولو لمرة واحدة، في إشارة لقيمة الحياة رغم دوام صعوبتها.
يأتي هنا ذكر الحبكة الرئيسية التي كانت السبب في صراع "حسون" مع العالم، الدم والحليب يشيران للكؤوس التي شرب منها "حسون" في حلمه، حينما رأی في منامه الأنبياء أصحاب الديانات السماوية الثلاث يقدمون له شراباً فشرب من كأس الدم المُقدم له من نبي ديانة والدته سيدنا موسی ونبي ديانة أبيه سيدنا محمد، ليتصارع الدينان في قلب رجل مشتت لم يعرف لأيهما ينتمي ولأيهما ينتصر!
"الدم والحليب" ملحمة كبيرة قد يتم إدراجها ضمن أفضل ما تمت كتابته لسنوات طويلة؛ لما تمثله من فلسفة وقيمة أدبية كبيرة لأديب مصري اسمه "محمد الجيزاوي"، سيصعب عليه إصدار أعمال جديدة لما تصل إليه "الدم والحليب" من مكانة بين القراء في كل مكان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.