هل تخلق احتجاجات الشيخ جراح مسارات مغايرة للطريق الذي بدا أن الواقع يسلكه في السنوات الأخيرة؟ تحتاج الإجابة للنظر إلى الاحتجاج من خلال موضعه داخل التاريخ، والبحث عن التماثلات وأوجه التشابه في أرشيف الصراع، كما تتضمن إدراك الانعطافات والانقطاعات في سيرورة المقاومة. وبذلك يمكننا وضع الاحتجاج في سياقاته المختلفة. هذا لأن التساؤل حول القضية الفلسطينية يقدم صفحات من النضال والمقاومة، وأيضاً وجهاً آخر للفشل والخيانة والتواطؤ، ما يُحيلنا إلى فحص المدّ والجزر والهبّة الثورية والردّة التي تُخمد استمرارية الثورة.
تمر ذكرى النكبة مع انفجار الشارع الفلسطيني في وجه الاحتلال، النكبة التي تعد كسراً في التاريخ العربي وجرحاً يتضخم مع الزمن. لا يمكن نسيان عام 48 لأنه يعود بنا إلى لب المأساة الفلسطينية، ويعيد للقضية أهم إفرازاتها وهي مسألة اللاجئين. في وقت اشتعلت الاحتاجات بعد تهديد أهالي الشيخ جراح بتهجير جديد. فالمحتل لا ينفك عن بعثرة الشعب الفلسطيني شتاتاً لتوطيد أقدام الاحتلال باستخدام ركن أساسي في تكوين مجتمع الفصل العنصري الإسرئيلي، وهي المستوطنات.
قبل فترة كان يمكن الترحم على القضية الفلسطينية، فقد حاولت عمليات السلام وتبريراتها الكسولة تحويل الفلسطينيين إلى جسر للإعجاب بالصهيونية. قامت علاقة زواج مشبوهة خلفت هيستيريا ترى في الفلسطينين ليس شعباً مظلوماً وإنما سبباً للبلاء. وجاءت الاحتجاجات في علاقتها مع التماثلات الظرفية المحيطة بالقضية من حيث السياق بتناصّ مع الماضي.
فقبل انتفاضة الأقصى، كانت هناك تنازلات تاريخية وهزائم متوالية تراكم الشعور بالقهر والقمع اليومي، لم تكن الجماهير الفلسطينية خانعة أمامها، ولكن جاءت الانتفاضة بعنف وقوة أعادت إلى الأذهان صدى الانتفاضة الأولى عام 1987. والتي قامت بعد تجاهل مؤتمر القمة العربية في عمان بالحث على ضرورة إزالة الاحتلال عن الضفة الغربية وقطاع غزة، كما أن التحركات الاستيطانية استمرت في اقتلاع الفلسطينين من أراضيهم ومنازلهم، صادرت آلة البطش العسكرية مساحة واسعة من الأراضي الفلسطينية، بحلول عام 1987، كان نحو 55% من أراضي الضفة الغربية و30% من أراضي غزة في أيدي المستوطنين اليهود.
حينها تحركت الجماهير بناء على الحاجة إلى العمل بأنفسهم؛ حيث لا يد تصافحهم إلا أيديهم، وبذلك كان لزاماً عليهم العمل بأنفسهم من أجل الضغط على إسرائيل بعد تراجع القضية الفلسطينية عن مركز الاهتمام العربي. ويبدو هذا مماثلاً للموقف في السنوات الأخيرة.
بدأت شرارة الاحتجاجات الحالية من القدس في إحياء مشهد الانتفاضة الثانية، كلاهما اندلعا من الأسفل بعفوية وبغياب مركز محرك للاحتجاجات؛ حيث تلاشت التقسيمات التي فرضها الاحتلال على الشعب الفلسطيني من تشتت جغرافي وسياسي، لكن الاحتلال بسياسته البربرية واجه الانتفاضة بتصعيد عسكري غاشم، قصفت المدن ومراكز الشرطة والمخيمات بالطائرات والمدفعية الثقيلة، كما لم تتهاون في استخدام الرصاص الحي والدبابات في مواجهة المدنيين.
كان لصورة مقتل محمد جمال الدرة، البالغ من العمر 12 عاماً، عن عمد، على يد الصهاينة دور في عكس وحشية الاحتلال، ودفع الجماهير العربية للعودة إلى التكاتف واستعادة مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للعالم العربي مجدداً.
وشارك فلسطينيو الداخل بفاعلية في انتفاضة الأقصى، مشاركة هي الأولى منذ عام 1976. وبالعودة للحاضر وضع فلسطينيو المدن المحتلة إسرائيل في ضغط وخوف من فقدان السيطرة الأمنية، وكانت رسالة المحتجين واضحة بأن الشعب الفلسطيني قضيته واحدة، والرهان الخاسر يتمثل في أن الزمن سينسيهم. الفرقة التي جعلت غزة والضفة الغربية كيانين منفصلين سياسياً وجغرافياً وعمقت من الشتات، يمثل اجتماعهم الآن خطراً يهدد السيطرة الأمنية لإسرائيل.
وذلك بسبب عنصرين مهمين: اتساع نطاق الاحتجاجات وانطلاق الاحتجاجات من الأسفل بإرادة جماهيرية تعيد الهم الوطني المشترك إلى الفلسطينيين بمعزل عن انقسامات من هم في السلطة.
ربما لم يشهد شباب الجيل الحالي للانتفاضة استغلال الانتفاضة الأولى كورقة تستخدم للحصول على سلطة بلا سيادة، سلطة تحت رعاية الاحتلال تعمل على خدمة مصالح وأهداف. لكنهم رأوا تبعات عملية السلام الخاسرة، التي رسخت لوجود الاحتلال حيث لم تتوقف انتهاكاته المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.
كانت الانتفاضة الأولى والثانية عاجزة وحدها عن تقديم بديل استراتيجي لتحرير فلسطين، فقد استخدمت كورقة على طاولة المفاوضات للحصول على شبه دولة، بعقد تسوية أدرات ظهرها لما تمثله النكبة من وضع مأسوي يتعلق بشتات الشعب الفلسطيني. الحراك الآن يمر بفترة باهرة، تضع الجماهير في قلب المسرح التاريخي كفاعل قادر على تغيير الأحداث وفقاً لرغبته وإرادته، بعد ثبوت فشل استراتيجية المفاوضات.
استهدفت إسرائيل تقويض وحدة الفلسطينيين عن طريق استراتيجية تهدف إلى تهويد الأرض، عبر اقتلاع الفلسطيني منها وإحلال مستوطنين. بهدف تعميق الانقسام الجغرافي وتدمير أساسيات السيادة السياسية الحقيقية، حيث لا يمكنها تكوين بنية مستقلة، وستبقى كياناً تابعاً للاحتلال؛ حيث تصبح فلسطين عبارة عن جرم صغير يدور في فلك إسرائيل.
تلك العمليات الاستيطانية في الشيخ جراح وخلافه تهدف إلى خلق حزام من المستوطنات يحيط بالقدس الشرقية لتصبح عاصمة موحدة لدولتها، بعد خلق حقيقة واقعة على الأرض يصعب تغييرها. ولا يمكن تخيل حسم لقضية القدس عن طريق المفاوضات؛ فالشعب الفلسطيني لن يقبل الخنوع للتوحش الإسرائيلي، كما لن يتخلى الاحتلال عن الركيزة الأساسية التي يسوق على أساسها مشروعه الاستعماري في الأراضي الفلسطينية.
ويسير ذلك بشكل موازٍ لتنكر بعض الدول العربية لعدالة القضية الفلسطينية؛ حيث كان الداعم التاريخي لكفاح الشعب الفلسطيني هي الدول التي عانت من الاستعمار في السابق، والتي تربطها علاقة تاريخية بفلسطين، لكن توافق المصالح بين البرجوازية العربية ونظيرتها الإسرائيلية دفع عزلة الفلسطينيين إلى أقصاها. فأصبحت فكرة المساومة التاريخية مستحيلة، اعتبرت الأنظمة في الوقت الحالي أن التقرب من إسرائيل مفتاح للحصول على قلب أمريكا، فالتحالف يهدف إلى خطب ود الاحتلال كوسيلة لكسب دعم الإدارة الأمريكية في ملفات أخرى.
وتبدو محاولة كسب الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية نقطة ضعف تؤثر على جدوى النضال أو التفاوض. فالمجتمع الدولي لا يعترف بالضحية ولا يتصرف وفق معطيات المنطق أو التعاطف، وإنما وفقاً للقوة وقدرة الفاعل حتى وإن كان معتدياً على تحقيق مصالح الإمبريالية.
بالنسبة للقوة التي تتفاوض معها أمريكا فهي تريد الحفاظ على مصالحها المرتبطة بوجود الكيان الصهيوني، ولن تدفع بأي حال نحو تشكيل دولة فلسطينية يمكنها تهديد دولة الاحتلال في المستقبل.
إننا لن نستطيع التنبؤ بالمستقبل لنضع إجابة عن السؤال الملح الراهن: ماذا بعد الاحتجاجات؟
اعتمد الاحتلال على هزائم المقاومة في الانتقال إلى مرحلة أشد عنفاً وتغلغلاً في استباحة الحق الفلسطيني، لكن ما يظهر على السطح أن الحراك الجماهيري خرج من ضيق وإفلاس النخبة الفلسطينية. وعاد ليظهر قدرته على تثوير جماهير المنطقة في تفجير حركات تضامن تدعم قضيته. إن الاحتجاجات تبعث على الأمل في التغيير، فالباب فُتح أمام الفلسطينيين لصناعة مصيرهم باستمرار مقاومتهم الجماعية العنيدة والشجاعة.