من المبكر للغاية استنتاج أين ستذهب الأمور في الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على المقاومة الفلسطينية في غزة والقدس وغيرهما من المدن الفلسطينية، لكن الأيام الماضية كانت كفيلة بتسجيل عدة نقاط مهمة ليس بداية من المشهد العسكري ولا انتهاءً بالمواقف الدولية والشعبية.
الأقصى والقدس محور المعركة
في الماضي القريب كان يتم عزل قطاع غزة عن باقي فلسطين، ومن ثم شن الحروب عليه، حيث كانت إسرائيل تطلق شرارة الحرب إما باستهداف قيادات المقاومة الإسلامية أو تشديد الحصار على القطاع، لكن في هذه الهبة الفلسطينية البوصلة هي القدس والأقصى. بدأت الهبة عندما هددت المقاومة في غزة الاحتلال الإسرائيلي بالتدخل إذا ما لم يتوقف العدوان على حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، حتى إنها أعطت مهلة زمنية أخيرة قبل أن تضغط على الزناد، وهو ما ولد حالة تضامن أوسع عربياً وعالمياً، إذ إن الرشقات الصاروخية للمقاومة ضد المدن المحتلة والمستوطنات انطلقت دفاعاً عن حرمة المدينة المقدسة وأولى القبلتين.
دخول غزة على خط صد تهويد القدس والأقصى كان الدافع الأساسي لفلسطينيي الداخل للتحرك في مدنهم وقراهم ومواجهة شرطة الاحتلال والمستوطنين، وخاصة في مدينتي اللد وحيفا، وهو ما شكل إرباكاً كبيراً لنتنياهو وحكومته، التي بدأت تتحدث عن خوفها من اندلاع حرب أهلية، بالإضافة إلى ما يشكله ذلك من ضغط إضافي على القادة الأمنيين والعسكريين.
سلاح المقاومة وقدراته المتطورة
كصحفي ومتابع للحروب السابقة بين غزة والاحتلال، أبرز ما لفت انتباهي منذ اليوم الأول هو سلاح المقاومة، وتطور قدراته التدميرية بشكل لافت، بعكس الجولات الأخرى من الحروب. كما أن نوعية الصواريخ المستخدمة وكيفية إدارة المعركة وطريقة ضرب الرشقات الصاروخية واختيار المدن المستهدفة تشير إلى مدى تمكن قيادة أركان المقاومة من استنتاج العبر من الحروب السابقة.
لم نعد نسمع أن المقاومة قصفت بصاروخ أو اثنين أو حتى عشرة بل أصبحت الأعداد كبيرة، وكبيرة جداً، بل اعتمدت هذه المرة على الكثافة النارية حتى أطلقت عليها قناة الجزيرة وغيرها مصطلح "الرشقات الصاروخية" بدلاً من قصف صاروخي.
كما أن المشاهد التي تابعتها لحجم الدمار داخل المدن المستهدفة لم أرَ مثلها في الجولات السابقة، حيث هناك دمار كبير في الممتلكات وإصابات مباشرة. وعلى سبيل المثال، القسام أعلن في حرب 2014 قصف تل أبيب، لكنه لم يتمكن من إصابة الهدف بسبب القبة الحديدية، لكن هذه المرة أصاب الأهداف وبقوة في كل رشقة لصواريخه قصيرة المدى والبعيدة.
الدعم الشعبي وإسقاط "صفقة كوشنر"
قبل بدء هذه الجولة من الحرب بين المقاومة والاحتلال، اشتعلت مواقع التواصل بالدعم الكبير، بداية لأهالي حي الشيخ جراح، ثم للمقدسيين المرابطين في باحات المسجد الأقصى، ومع دخول المقاومة على الخط لم يخفت الدعم، بل ازداد وأخذ شكل حق الفلسطينيين في الدفاع عن النفس.
وهنا أذكّر بما قلته في النقطة الأولى، أن هذه الحرب لم تكن بدافع أو بأسباب "غزّية"، بل دفاعاً عن الأقصى والقدس، وهو ما انعكس بشكل كبير على المتضامنين من العرب والأجانب بعكس الجولات السابقة، التي كانت حماس والمقاومة في الواجهة فقط. التضامن الشبابي على مواقع التواصل المختلفة ودخول المؤثرين الذين يتابعهم الملايين على الخط لعب دوراً مهماً في تشكيل رأي عام عالمي، دعماً للقدس والأقصى، ودفاعاً عن حق المقاومة في الدفاع عن نفسها وعن غزة. وعلى سبيل المثال، بوستات وتغريدات لاعبين كبار وفنانين ومشاهير عرب وأجانب عبروا فيها عن رفضهم لما يجري وما يقوم به الاحتلال ضد الفلسطينيين، وهو ما يجب أن يستثمر لاحقاً في تكذيب روايات الاحتلال التي روجها منذ سنوات ولا يزال.
كل ما سبق جعل حلم كوشنر صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تطبيع الدول العربية مع الاحتلال وإقامة علاقات طبيعية أصعب بكثير مما كان متخيلاً، فالحكام وإن أقدموا على هذه الخطوة فإن الشعوب كما يظهر الآن ترفض بشدة القبول بمثل هذه الخطوة، لكن أيضاً يجب على الشعوب أن تظل واعية بالمخاطر، ولا يمكن البناء فقط على حالة من الحماس الزائد أثناء الحرب.
ازدواجية المواقف الدولية ونهاية هذه الجولة
كالعادة، سارعت الولايات المتحدة والدول الأوروبية لإدانة صواريخ المقاومة، ودافعت عن حق الاحتلال في الدفاع عن نفسه، لكن في الوقت نفسه أجبرت ضربات المقاومة البيت الأبيض على مطالبة وسطاء عرب وإقليميين "مصر وتونس وقطر" بالحديث مع حركة حماس لوقف القصف وإنهاء ضرباتها الصاروخية.
وقف المعركة على ما يبدو لن يكون قريباً، لأن شروط المقاومة لن يقبل بها الاحتلال، خاصة فيما يتعلق بالقدس والأقصى، كما أن نتنياهو لا يبدو متعجّلاً لإنهاء هذه الجولة، لأنه يريد إعادة الاعتبار لحكومته ولجيشه الذي فشل في صد صواريخ المقاومة التي ضربت العمق الإسرائيلي وأوقفت الحياة في عاصمته ومطاراته.
تحولات سياسية وتبدلات في المواقف
في السياسة كان واضحاً أن تحولات بدت واضحة نتيجة العوامل الدولية التي تغيرت عقب فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية، هذه التغيرات كانت من خلال:
أولاً: الموقف المصري الذي يُبدي انزعاجاً منذ فترة، في ظل محاولات أبوظبي سحب الملف الفلسطيني من يد القاهرة، عقب التطبيع الإماراتي مع الاحتلال، ووفقاً لكل المصادر فإن القاهرة، التي حاولت بداية الأحداث لعب دور سياسي مع تل أبيب لوقف الحرب الدائرة مع قطاع غزة، وجدت نفسها غير مرحب بها من قبل الإدارة الصهيونية، التي تنسق مع الإمارات، هذا الاستخفاف الإسرائيلي بالوفد المصري الذي غادر الأراضي المحتلة دون جواب إسرائيلي، ووفق العديد من المصادر فإن الجانب المصري عبر المخابرات العامة، بدأ بالتواصل مع نظيره التركي لإيجاد تنسيق مشترك حول الملف الفلسطيني.
ثانياً: وجدت الحكومة المغربية نفسها أمام مأزق شعبي ونخبوي عقب اتفاق التطبيع، لذا فإن رئيس وزرائها سعد الدين عثماني سارع لإطلاق مواقف داعمة، بعد أن شعر بأن شعبية حزبه بدأت تتراجع، وأن انقساماً عامودياً سيشهده الحزب الإسلامي العريق.
ثالثاً: أتاحت التحولات السياسية التي تشهدها المنطقة لحركة حماس أن تعود لواجهة الفعل السياسي المؤثر في الإقليم، فالحركة تتلقى يومياً عشرات الاتصالات من جهات عربية وإقليمية وأوروبية، للنقاش معها حول الحرب وإمكانية وقف التصعيد، ما يثبت قدرة الحركة على الجلوس على أي طاولة مفاوضات، أو وضعها في حساب الدول التي تناقش وضع المنطقة وتحدياتها كقوى فلسطينية ذات امتداد شعبي وإسلامي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.