عند انطلاق عملية "سيف القدس" وقبل إعلان موقف رسمي مصري منها، ظل عدد من المشاهير و"الأنفلونسرز" أو من يُعرفون بالمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي المصريين صامتين، أما المرتبطون منهم بدوائر التمويل الإماراتية فسارعوا في إطلاق العديد من منشورات الإدانة الصريحة والمبطنة للمقاومة الفلسطينية. لكن عند الإعلان عن الموقف الرسمي المصري الذي بدا مختلفاً هذه المرة، وجد هؤلاء أنفسهم في موقف مرتبك لا يحسدون عليه. البعض ظل على تبنّيه المقولات السابقة نفسها والبعض انتقل من الإدانة الصريحة للمقاومة إلى إدانات مبطنة، والبعض اتجه لتأييد حقوق الفلسطينيين على استحياء، لكن تظل المعضلة وهي صعوبة ضبط الإيقاع بأي اتجاه في هذه التطورات المفاجئة والمربكة بطبيعتها. لم يقع هؤلاء وحدهم في اختبار؛ بل فشلت أيضاً بعض الرموز المحسوبة على ثورة 25 يناير والشخصيات العامة ومارسوا مزايدة وصوابية سياسية مقيتة تجاه فلسطين والفلسطينيين والمقاومة رغم ما أبدوه من بعض عبارات التعاطف لاحقاً.
غياب المنطق واستدعاؤه
في اليوم الأول لإطلاق عملية "سيف القدس" انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي المصرية سيل من الإدانات شبه المنظمة ضد حركة حماس والمقاومة الفلسطينية. بدأت تلك المقولات المتهافتة بترديد مقولات تدين حماس باعتبارها "حركة إرهابية" وتتبنى الربط الإعلامي السطحي الذي بثته الأجهزة الأمنية المصرية لعلاقة الحركة وعناصرها بالثورة المصرية كمؤامرة. كما تم ربطها بضربات تنظيم "أنصار بيت المقدس" الذي تحول إلى "داعش-ولاية سيناء" لاحقاً، على نحو لم تؤيده أي من المحاكم المصرية في أي من القضايا المطروحة أمامها منذ الثورة وحتى ما بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013. العجيب هذه المرة أن بعض مرددي هذه التهافتات باحثون وكُتاب، رددوا في بداية المعركة وفي الساعات الأولى لها يوم 11 مايو/أيار، مقولات تسفه خيار المقاومة ونتائجه، من قبيل "حماس حدفت ع اسرائيل 150 صاروخاً والأضرار كسر عمود إشارة مرور! يا بخت اسرائيل بمقاومتها، المقاومة الحنينة رزق، يظهر لاقتراب العيد بيرموا على إسرائيل بُمب العيد".
وصل الأمر ببعض الانعزاليين الذين يعتبرون أن الهوية المصرية تتلخص في "مصر الفرعونية" وفقط وكفانا من العروبة، والذين انتفخت عروقهم بموكب المومياوات كإعلان عن الهوية الفرعونية كمكوّن وحيد للشخصية المصرية، ومن يسمون أنفسهم تيار القومية المصرية أو "أبناء كيميت"، إلى حد اعتبار الأحداث في فلسطين مؤامرة من الفصائل الفلسطينية وإسرائيل لتشتيت مصر قبل الملء الثاني لسد النهضة.
مع تغير النبرة الرسمية للدولة المصرية، لأسباب بعضها متعلق بردّ الصفعات للمُطبعين الجدد الذين ذهبوا للتطبيع بعيداً عن التنسيق مع القاهرة أو تبنّوا مؤخراً سياسات أضرت بمصالح مصر وأمنها القومي في ملفات ليبيا وشرق المتوسط وفي السودان وحوض النيل والدور السلبي في القضية الأهم وهي قضية سد النهضة، وعلى رأسهم الإمارات الحليف الاستراتيجي للنظام المصري. فإن هؤلاء وجدوا أنفسهم كمن بات بالعراء في ليلة شتوية قارسة، ثم يطلب منه أن يلعب بالثلج في الليالي التالية رغم كرهه للشتاء وكل ما يتعلق به. تحول هؤلاء إلى ماكينات لمشاركة الموقف الرسمي المصري الذي جاء مفاجئاً هذه المرة، انقلب هؤلاء مئة وثمانين درجة للنقيض، سواء بمشاركة بيان وزارة الخارجية المصرية في الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب أو الاحتفاء الشديد بخطبة الجمعة للدكتور أحمد عمر هاشم من الجامع الأزهر والتي تبنت عبارات شديدة الإدانة للاعتداءات الإسرائيلية على الأقصى والقدس، في إشارة إلى عودة الأزهر لموقف مشابه لما كان في عهد مبارك وحتى 2013.
وبرغم أن هذا الموقف لا يتحدث إلا عن القدس فقط والعودة للتهدئة وتوفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين في حرم المسجد الأقصى وسائر القدس الشرقية، وهو ما لا يتجاوز المواقف المشابهة دولياً والمتكررة سابقاً للمطالبة بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين في إطار حل الدولتين، الذي بات مستحيلاً بسياسات الاستيطان وصفقة القرن التي رحبت بها مصر في انطلاقتها مع حلفائها بالخليج، فإنه يمثل انتقالاً كبيراً من موقف الإدانة للمقاومة بشكل عام إلى موقف الاستخدام والتوظيف لهذه المقاومة، وهو تغير إيجابي كبير. لكن هذا سرعان ما تُرجم لتغريدات تدعم حقوق الفلسطينيين والقضية الفلسطينية مع إدانات ضمنية لحركة حماس سواء بالتساؤلات: أين حماس مما يجري في غزة؟ أين العمليات النوعية التي تستهدف الجيش الإسرائيلي؟ أم أنها فقط تضرب المدنيين لكي يتعاطف العالم مع إسرائيل فتفعل ما تشاء بعد ذلك للدفاع عن النفس؟
وهذه التغريدات تتماهى تماماً مع تغريدات إماراتية وتغريدات الصفحات الإسرائيلية بالعربية التابعة للدبلوماسية العامة الإسرائيلية، مع موجات تحميل حماس وفصائل المقاومة نتائج المعركة والخسائر المادية والبشرية في القطاع؛ بل يذهب البعض إلى أن حماس والتيارات القومية اعتادت تسويق الفشل والهزيمة باعتبارها انتصارات مزيفة، مع محاولة منطقة هذه الادعاءات بسَوق أمثلة متباينة ومتضاربة وبمنطق مَعيب ومغالط تماماً.
المراهقة اليسارية والليبرالية
يلتقي مع هذا التيار السابق في التهافت الشديد تيار آخر هو تيار "مقاومة الاحتلال السلمية" فقط، ظهرت مثل هذه المقولات شديدة التهافت في كتابات لشخصيات عامة، بعضها ظل مناوئاً لنظام الثالث من يوليو/تموز وسياساته القمعية وتحركاته الإقليمية والدولية، بل بعضها كان في مواضع صنع قرار بعد الثورة مثل السيد عمرو حمزاوي، الذي خرج علينا بتغريدة يقول فيها التالي:
كأن هذا أمر ممكن لو أن هذه الهبة الفلسطينية مجرد نزاع على خلفية اختلاف أطرافه السياسية على طبيعة الدولة ونظام الحكم الذي اتفقوا مسبقاً على إقامته أو أنهم بصدد الاتفاق عليه، لا بصدد دولة ترفض حل الدولتين وحل الدولة الواحدة العلمانية الذي يطرحه كثيرون ويروجون له؛ بل إنها اتجهت منذ عقدين تقريباً، إلى الاستيطان المكثف؛ من أجل إنهاء كل حلول مطروحة سوى حل يهودية الدولة القائمة بالضرورة على نفي الآخر وسحقه وطرده من أرضه.
وفي هذا السياق أيضاً، جاءت كذلك تغريدة متهافتة للسيد محمد البرادعي، الرمز الليبرالي الأكبر للثورة المصرية والشخصية الأبرز دولياً والذي اختاره نظام 3 يوليو/تموز نائباً للرئيس للعلاقات الخارجية إبان الانقلاب العسكري الدموي، لتعبر عن موقف مشابه أكثر تهافتاً.
أيضاً وبرغم تعالي نبرة التضامن من قوى اليسار العالمي، فإن بعض رموز اليسار وبعض شبابه في المنطقة العربية وبالذات في مصر، بدوا أكثر تحفظاً في دعم المقاومة الفلسطينية سواء لغلبة مساهمة "كتائب القسام" في الرشقات الصاروخية ضد الاحتلال على ما عداها من فصائل المقاومة، أو للموقف المسبق من الحركة باعتبارها حركة "رجعية" يجب الحذر من تأييدها، وبالتأكيد فإن سياسات حماس يطالها بعض النقد، لكن لم يكن من الصائب التذكير بهذا النقد في هذا التوقيت أو ضرورة إقرانه بأية عبارات تأييد ودعم للقضية، لأن هذا يجعل اليسار أكثر انعزالية عن التيار العام المتضامن مع الفلسطينيين والقضية بشكل عام، فضلاً عن كون حماس إحدى بذور تنظيم الإخوان المسلمين الذي لا يزال رغم كل الضربات الموجهة بحقه من قِبل الأنظمة والتيارات المناوئة، يحظى بتأييد عادةً ما يظهر بقوة عند اختباره في أية انتخابات حرة نزيهة تجري في أي من الدول التي ينشط بها التيار. وإن كان التيار اليساري يخشى من تجيير المقاومة وعملية "سيف القدس" لمصلحة حماس وتيار الإخوان المسلمين ويشكل قوة دافعة لهذا التيار لاستعادة مكانته في المنطقة بعد الضربات التي تلقاها بشدة، فإن تلك التخوفات تشير إلى ضعف أصحابها أكثر من كون نقدهم للحركة نقداً موضوعياً. إذ ليس بإمكان هؤلاء أن ينكروا القدرات العسكرية الهائلة التي راكمتها الحركة بجهود ذاتية أو بتحالفات عجزت عديد من دول وأنظمة المنطقة محاكاتها وإنشاء علاقات متوازنة تسمح لها بقدر جيد من التصنيع العسكري. كما أن هؤلاء يتجاهلون التصاعد الكثيف لأدوار الفاعلين من غير الدول، وعلى رأسهم الحركات المسلحة باختلاف أيديولوجياتها وأهدافها، والحركة أقرب لجزء من حركات التحرر الوطني، إذ تقوم بالتنسيق الشديد مع الفصائل والأطراف السياسية الأخرى في معاركها عادة. والتنسيق هذه المرة لافت للنظر، وتبدو هذه التيارات في هذا الموقف كمن يلوم الفلسطينيين على التنسيق مع حماس أو كمن ينتظر أن ترفع المقاومة منجلاً لكي يقوم بتأييدها، وهو موقف جد متهافت.
بالطبع لا يمكن حسبان حمزاوي والبرادعي وأي من اليساريين على التيار الدولتي، لكنهم ببساطة يرددون عبارات أكثر تهافتاً من تلك التي يرددها شباب الدولتيين الطوعيين من غير ذوي الصفة والحيثية لدى النظام المصري على صفحاتهم الشخصية، والذين وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه عقب الإعلان الرسمي عن موقف مغاير لما افترضوه بداهة من وقوف تام مع إسرائيل وإدانة كاملة للمقاومة باعتبار حماس "إرهابية"، أو تورط المنطقة ومصر في صراع مخطط مسبقاً بينها وبين نتنياهو واليمين الإسرائيلي. وإذا كانت دول وأماكن ومواقع هذه الرموز تبدو مبرراً لمواقفهم، فإن العديد من الرموز الليبرالية واليسارية الأوروبية بدت أكثر تعاطفاً وتضامناً وبمبررات مغايرة تماماً لمنطق هؤلاء، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن العديد من نجوم الفن والرياضة الغربيين كتبوا عبارات واضحة وصريحة تدين العدوان، دون ذكر للرد الفلسطيني عليه؛ بل ذهبت بعض الصحف إلى أن للفلسطينيين أيضاً حق الدفاع عن النفس ضد الاحتلال، لكن هذه المواقف تضر بأصحابها وتجعلهم أكثر عرضة للعزلة؛ بل المواقف المناهضة المبدئية، كما تضر بموجات الحراك والنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان أو حتى النضالات اليسارية من أجل تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو للتخلص من التبعية وتحقيق تنمية بعيدة عن الفشل البنيوي الذي تسببه إسرائيل لأي من تلك المحاولات في دول جوارها؛ للحفاظ على كونها النموذج الوحيد الممكن للتعايش أو للتنمية في هذه المنطقة.
لا ينكر أحدٌ أن موجات التعاطف تتجاوز التيارات كافة وتخترقها حتى إنها تنتشر بشكل كبير في أوساط غير المثقفين وغير المسيسين، بل لليسار مواقف مبدئية مؤيدة لحركات التحرر الوطني وحقوق تقرير المصير، والعديد من رموز هذا التيار من حركة مقاطعة إسرائيل في السجون، لكن ما يمكن تسميته بممارسة التنظير المتهافت على المقاومة في وقت المعركة يضر بالجميع، وإذا كان قادماً من شخصيات مشهورة فإنه يضر بالموقف الكلي لهذه المجموعات، وإذا كان مناقضاً لموقف رسمي غير متوقع فإنه قد يتحول لتهمة كبيرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.