يُفزِعُنا موتُ الشبابِ ونَرتَجِفُ إن سَمعنا بالخبرِ. قبلَ أيامٍ قليلة، صَحونا على خبرِ موتِ فتاةٍ في عمرِ الزّهور، فكان الحدثُ غير مسبوقٍ. أو بالأحرى، يأتي مرةً في السنةِ، فقامَ كلّ من بالقريةِ وما قَعَدَ، جرّت حُرقةُ الشبابِ الجميع، فتوافدتِ الجموعُ على أسرةِ الفقيدة بالتناوبِ، وكلّ من ذهبَ إليهم بَكى، وانهار من بُكاء الأقارب، وحَزِنَ للموتِ المُفاجئ الذي لم يمنحنا وقتاً للوداعِ. لكنّ المُعزِّيَ وإن انتحَبَ، زالَ ألمهُ وبقيَت الفجوةُ في قلوب الأسرةِ، فكلّ من أتى ليعزّيهم يمضي، وقلبُ أمّ البنتِ بداخلهِ كَجمرةٍ موقَدة، فأينما هزّت عينيها رأت طيفاً رَحل دونَ وداعٍ، ومتى حرّكت من جسمها يداً أو قدماً أو رأساً، قالت: "ابنتي، ابنتي!" وإن طافَ بها الناسُ صبرت، وإن بقيت وحدها أفصحت عن حُزنِها، وبَكت فلذة كبدها.
مثل هذا نادرٌ وإن حَدَثَ، لكنّه في غزّة يحدثُ مراراً، ولعلّ النّادر عندهم هو أن تجد أسرةً بلا شهيد، فكما لو أنّهم يتسابقون إلى الشهادةِ، وكما لو أنَّ الأمهاتِ هُناكَ يُنجِبنَ للوطنِ أطفالاً يفدونَهُ، فتجدُ فرحة شهادة الولدِ ليست بأقلّ من حُزنِهم عليهِ، ولأنّ من يُعايِشُ الوضعَ ليسَ كمن يراهُ، فإنّ الإسقاطَ صعبٌ، وإن كانَ مُقارِباً لما يَقَعُ، إلّا أنّ من العسيرِ تفهّمُهُ أو الشعورَ بهِ، فماذا سيكونُ شعورُ أمّ أرسلت ابنها ليلعَبَ فأتاها في نعشٍ لأنّ القصفَ الإسرائيليَّ أصابه بقنابله؟ وماذا سيكونُ شعورُ الأطفالِ إن ذَهبت أمّهم لتغطّي حاجةً من حاجات أبنائها، فصادفَ مكانُ قضاءِ الحاجاتِ مكانَ نزولِ صاروخٍ؟
مهما امتدّ الصَّبرُ، فإنّ كثرة الفواجِعِ تُنهِكُهُ، فيصيرُ اللحاقُ بمن غادروا حُلم من بَقِيَ، لولا أنّهم يحملونَ فوقَ ظهورهم جثث الذينَ غادروا! فلا يُمكن لكلّ هؤلاء الشهداء أن يموتوا هباءً منثوراً، وإنّما ضحّوا بأرواحهم كي لا يتمكَّنَ المُحتلُّ من أخذِ أرضهِم، فالأرضُ أمٌّ، ولا يُمكن للولدِ ألّا يَفدِيَ أمّه بروحِهِ، فأن تُغتَصبَ الأرضُ وتظلَ أنت في سرورٍ، لهو أشبه بأن يلمسَ غريبٌ أمّكَ، أفتراكَ حينها ستسمحُ له، ولن تنتفض؟ فالطفل الصغيرُ، بفطرتهِ البريئة يُدركُ أنّ عليهِ حمايةَ أشيائه الخاصة والحصولَ عليها وإن قاتَلَهُ الجميعُ عليها، فإنه يظلّ ممسكاً بها، قابضاً عليها، دونَ تخلٍّ أو استسلامَ، وعبثاً، سيتمكّن أحدهم من إقناعهِ بأن يجدَ عنها البديلَ، وإن كانتَ مُجرّدَ دُميةٍ مُهترئة، فإنّه يظلّ ممسكاً بها، حتّى آخر نَفَسٍ، وما ظَلَمَ من تمسّكَ بحقّهِ، وما لَهُ، ودافع عنهُ!
يوم الثلاثاء المُوافق 11 مايو 2021، شاهدتُ مقطعاً فتّتَ كبدي، فبعدما أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن مقتل العشراتِ من الفلسطينيين من بينهم أطفالٌ، بالإضافة إلى إصاباتٍ تَجاوَزت المئة نتيجةً للقصفِ الإسرائيليّ على قطاع غزّة، كانَ من بينِ الذين استشهدوا في مخيم "جباليا"، القائد صابر سليمان الذي يبلغ من العمر 39 سنة، وابنه محمد البالغ من العُمر 16 سنة، وفي المَقطعِ، يظهرُ براء صابر سليمان (12 سنة) في جنازة أبيهِ، كانَ في الخلفِ، ويحاول أن يُفلت من يدِ أشخاص يمسكونَ بهِ، ويُواسونَه، فأفلتَ منهم، ورَكَضَ نحوَ والده المُحمول على الأكتافِ، مُتجاوِزاً كلّ الموجودينَ أمامَهُ، وهو يبكي، وينادي والِدَهُ، كما لو أنّه يُريدُ توديعَهُ أو رؤيته للمرةِ الأخيرة، وما إن وصلَ إلى مُقدّمة الجنازةِ، حيثُ توجد جثّة أبيهِ، حتّى اشتدّت ملامحُ الانهيارِ عليهِ، قائلاً لوالِدِه: "الله يسهل عليك يابا!". وبعدَ الدّفنِ، قالَ، مُودعاً: "الله يسهل عليكم".
لقد قطّعَ الولدُ أحشائِي، تيتّمَ في عُمرٍ صَغير، فأُخذِ من بيتهم شخصانِ دفعةً واحدة، خَسِرَت أسرةٌ مَقعَدَينِ، عمودُ بيتٍ وأحدُ فُروعِهِ، أطفالٌ تيتّموا، وزوجةٌ تَرَمَّلت، فمن ذا سيشاركُ الفتى لَعِبَهُ أو يشدّ بهِ أزرَه أو يشركه في أمره؟ ومن أينَ قد يأتيهِ عزٌّ كعِزِّ الأبِ الذي استهدَفته الغارات الجوية؟ هل ينسى هذا الولدُ فاجِعَتَهُ؟ ألن يؤرّقه التساؤل عن سبب هذا كلّه ولماذا أبوهُ وأخوهُ؟ وما ذنبه؛ كي يَحمل هذا العبء الثقيل والحُزنَ الكبير في هذا العمرِ الصغير؟
يكبُرُ الأطفالُ في فلسطينَ بسرعةٍ، وبسرعةٍ يتعلّمونَ الرّشق بالحجارةِ، فهذا دأبُ الأطفالِ، يميلونَ إلى حمايةِ مُمتلكاتهم، بأيّ طريقةٍ ممكنة؛ وكثيراً ما ستجدُ طفلاً فلسطينيّاً بألفِ ذَكَرٍ عربيٍّ، فالأمهاتُ يُرضعنَ الأطفالَ حليباً ممتزجاً بهَمّ هذا الوَطنِ، فتجدُ الأجنة تتلصّص السّمعَ وتقتفي الخَبَرَ، وتتهيّأ للبَسَالَةِ ما أن يُقطع الحبل السّرّيّ عنها. لكن بالرّغم من كلّ هذا، لا يُمكننا أن ننكرَ أنّهم قد حُرِموا من طُفولَتِهم، أليسَ من الأجدرِ أن يعيشوا دونَ خوف ولا هلعٍ؟ فالأمانُ حقّ من حقوق الأطفالِ، كلّ هذه العُقد النفسيةِ، والآلام النّفسيّة، وهذا الظُّلم الذي يرونَهُ سيُصَرَفُ كوابيسَ، وخوفاً، وأشياء قد لا نعرفها، يظلّ الطّفل طفلاً، بحقوقٍ سخيّة، لكن ما إن يكن الطفل فلسطينياً حتى تصيرَ أبسطُ الحقوقِ محظورةً عليهِ! أرواحُ أطفالنا ليست رخيصةً، فلماذا تستهدفُ الغارات الجوّية الإسرائيلية أطفالاً يلعبونَ؟ ولماذا يعتدي جنود الاحتلال على أطفالِ الأرضِ؟ ولماذا يتمّ الزّج بهم في سجون الاحتلالِ؟ إنّهم أطفالٌ، مُجردُ أطفالٍ، ألا يوجد في العالم كلّه من يحميهم؟ ألا يمكن أن تُعقد اتفاقيات تقضي بأخذ الثأر لأرواحهم البريئة أو كَبح جماح أيّ أذى يستهدفهم؟
يبكي البراءُ على فقدِ والِدِهِ وأخيهِ، يشعرُ بحُرقةٍ في قلبه لو اجتمعَ النّاسَ كلّهم على أن يشعروا بمثلها ما كانوا ليشعروا سوى بجزء منها، يبدو الطفلُ مُنهاراً، وبالكادِ تحمِلُهُ أقدَامُهُ، كما لو أنّه يحملُ ثقلاً لا يقدرُ عليهِ، يبكي كلّ الأطفالِ الذينَ استشهدَ آباؤهم وأقرباؤهم، يبكي هذا الشعب الذي يُسكَتُ عن عَذابِهِ وما يُقاسيهِ، بل إنّ من الواردِ أن تجد من النّاس من يقول إنّ الفلسطينيين أهلُ مشاكِل، وهو نفسه قد يقتُلُ النّاس جميعهم إن هُم اقتربوا من شبرٍ من أراضيهِ، وإخواننا في كلّ بقاع فلسطين، مُرابطون، ولا يمكن أن يهجروا أراضيهم، كي لا يتركوا للمحتلّ فرصةً لأن ينهشَ ما لَهُم، ويفرحَ بانتصارٍ كاذب، ليسَ له.. أفيعجزهم قبول الإغراءات والسّفر والهجرة لأجمل البلدانِ؟ لا يُعجزهم أن يفعلوا، ومن السّهل أن يُدبِروا، لكنّهم أهلُ قوامة وحِرصٍ وأمانة، ولن يسمحوا للغريبِ بأن يسكنَ أوطانهم، وسيدافعونَ عن الأقصى، ويرابطون فيهِ، ولو قُتلوا، وفُتّتوا، عِرقاً بعرقٍ، ولحمةً بلِحمةٍ، وهذا شيء لا يمكن لجميعِ الناسِ فهمه.
لكن، ألم يحن الوقت بعد لأن يُنظَرَ في حقوق الأطفال الفلسطينيين عموماً، وأطفال غزّة خصوصاً؟
إنّ حياةَ الإنسان بدون كَرامةٍ وحقوق لا تعني شيئاً، وحقوق الإنسانِ لا تأتي من كونِهِ ابن فُلان أو علّان، وإنّما هي حقّ طبيعيّ، يحوزهُ الإنسانُ لأنّه إنسان، وبالتالي، فإنّ لكلّ إنسانٍ حقوقاً، وهذه الحقوقُ درجاتٌ، فحقوقُ البالغ القادر، ليست نفسها حقوقَ الطفل أو الكهلِ الضعيفِ، فالعدلُ مهمّ في الحقوق وإن لم تتساوَ إن نظرنا إليها نظرةً سطحية، وقبل أن يصبح الإنسانُ قادراً على أن يعتمدَ على نفسهِ، ويبلغ سنّ الرّشد، فإنّه يُمنحُ حقوقاً إضافية، تحميهِ، وتقرّر أحياناً عنه فيما يتعلق بالموافقة المستنيرة مثلاً.
تُراهنُ كلّ أمةٍ على أطفالها، ولا يُتعِبُني أن أكرّر كلّ مرةٍ أنّ المجتمع سيدفعُ ثمنَ فعلهِ بأطفاله حينما يكبرون، فلكلّ جيلٍ حُرمَتُهُ، وإن سعينا لشيء، فإننا نريد أن نحافظ على نفسية أطفالنا، ونمنحهم الأمان، ولا نسمح للعالم الخارجي بأن يُقَرِّبَ مَخالِبَهُ منهم، لكنّ وَضعَ الطفولة في فلسطين قاسٍ ومختلف كلياً، فلا يمكن لأطفال عاصروا لحظات اشتباكٍ -واحتكّوا بالخوفِ، ورأوا بعض أفراد أسرهم يتعرّضون للاعتداء، أو نالوا الشهادة- أن يتلقّوا نفس الرعاية التي يتلقّاها الأطفال الآخرون، فلا بدّ أن يكونَ هناكَ حرصٌ على الصحّة النفسية لهذه الفئة أكثر.
لم يسلم أطفال فلسطين من بطش الاحتلالِ، رضَّعاً وكباراً، من لم يَمت، أصيبَ بندوبٍ نفسيّة أو جسدية، كما لم يسلموا من مرور القنابل من فوق رؤوسهم، وفزعهم يكبُرُ كلّما سمعوا صوت إحداها وأحد الأفراد خارج البيتِ، لدرجة أنّ أماً تجمع أبناءها كلّما كان هناك قصفٌ، مخافةً أن يموتَ أحدهم ويبقى الآخرون.
إنّ أطفال فلسطين يعيشونَ ظروفاً غير إنسانية، يتمّ على إثرها أسرُ الأطفالِ، وتشريدهم، وبقاؤهم بدون مأوى، وعلى إثرها يُسجنُ ويعذّب أطفالٌ بطرق وحشية، وعلى منظّمات حقوق الإنسان أن تُولِيهم اهتماماً أكثر، ويتدخلوا لحمايتهم من الانتهاكاتِ، ودعم صحّتهم النفسية، والحرص على سلامتهم عند النزاعات المسلحة، فإنّهم كسائر الأطفال، ولهم الحق في الحصول على معاملة إنسانية تحفظ كرامتهم، ثم إنّني دائماً ما أتساءل: لماذا لا تُرفع دعوة النظر في حقوق هؤلاء الأطفال في المحاكم الدولية؟
"لا تُصالح،
ولو منحوكَ الذّهب،
أترى حين أفقأ عينيك،
ثمّ أثبّت جوهرتين مكانهما،
هل ترى؟
هي أشياءُ لا تُشترى"
. الشاعر أمل دنقل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.