ثار في الفترة الأخيرة حديث عن مدى علاقة الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس بإسرائيل، وقد آثرت أن انتظر قليلاً ولا أكتب رأيي في هذا الموضوع حتى لا يساء استخدامه من قبل من آذاهم رفض هابرماس لجائزة الشيخ زايد الإماراتية.
وموقف هابرماس هذا في إسرائيل تحديداً نابع من موقف أساتذته في "معهد فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية" (مدرسة فرانكفورت)، وكلهم يهود ممن هربوا إلى أمريكا في الثلاثينيات وحصلوا على جنسيتها ثم عادوا إلى ألمانيا المهزومة ليساعدوا أمريكا والحلفاء الغربيين في إعادة تربية الألمان على القيم الغربية الديمقراطية. وهؤلاء الأساتذة هم: ماكس هوركهايمر (1895-1973)، تيودور أدورنو (1903-1969)، ثم هربرت ماركوزه (1898-1979).
المهم أنه بعد عودة أدورنو وهوركهايمر إلى ألمانيا (1949) أعيد بناء "معهد فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية" (1950) بتمويل من القوات الأمريكية والجهات المانحة الأخرى (إيميل فالتربوش 2010، ص 30). لم يشارك ماركوزه في التأسيس الثاني للمعهد؛ لأنه بقي في أمريكا، حيث عمل في مكتب المخابرات التابع للخارجية الأمريكية حتى سنة 1950، التي انتقل بعدها للتدريس في الجامعات الأمريكية ولم يعُد إلى ألمانيا إلا زائراً أو محاضراً.
ورغم أن المعهد وضع كما كان تحت إشراف ماكس هوركهايمر، إلا أنه اختلف عن قبل بأن أصبح سياسياً أكثر منه اجتماعياً، وأنه جعل تجربة النازية والهولوكوست محركاً أساسياً لأعماله الفكرية والتجريبية، ما جعل طموحاته محدودة ومحددة، وإن شئت الدقة موجهة.
وبعد أن تخلص الحلفاء من النازية مادياً أو فيزيائياً كان دور المعهد أو المدرسة تطهير المجال العام من الأفكار النازية، ومن سلم القيم التي غرستها في الجيل الذي ربته؛ لأن استمرار هذا بعد أوشفيتز يعد "بربرية" تبعاً لأدورنو الذي اهتم بصفة خاصة بترميز أوشفيتز، كأنه لم يعد يرى إلا أثره الذي خلفه على الفكر الفلسفي والنقد الاجتماعي ودور العقل.
المهم أن المدرسة شكلت بشكلها الجديد رافداً مهماً لفلسفة الشعور بالذنب المسيطرة على ألمانيا، ومنظرة لكيفية الثورة على القيم الثقافية والاجتماعية التي أدت إلى أوشفيتز.
ورغم أن هوركهايمر تقاعد وانتقل لسويسرا سنة 1958، ثم أغلق المعهد سنة 1960 (أي مع استقلال ألمانيا الغربية وانسحاب الحلفاء الغربيين)، فإن مدرسة فرانكفورت التي انبثقت عن المعهد ظلت فاعلة فكرياً من خلال أدورنو وتلاميذه، وأهمهم هابرماس، في النطاق الأكاديمي وخارجه. ومن هنا كان لأفكار مدرسة فرانكفورت حول فضح الآليات الاجتماعية للسيطرة والقمع أهمية كبيرة بالنسبة لثورة الطلاب سنة 1968، وحتى في الولايات المتحدة؛ حيث كانت لأفكار ماركوزه الثورية حول ضرورة التحرر والمساواة والتغيير الراديكالي دور كبير في إشعال تلك الثورة التي حولت أفكاره، خاصة من كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" (1960) لشعارات يحملها الطلاب الثائرون عبر العالم.
لأن ثورة الطلاب كانت موجهة بالتحديد ضد كل ما يكبح الحرية، خاصة علاقات القمع والتسلط في المجتمعات وبين الدول، كان للطلاب موقف ثوري مع حركات التحرر والحقوق المدنية، وضد النظم المستبدة والحروب الإمبريالية.
وعندما ردت الأنظمة بعنف على الحركة الطلابية ازدادت راديكالية ونتجت عنها حركات مسلحة منها "منظمة الجيش الأحمر" في ألمانيا، و"الألوية الحمراء" في إيطاليا. وبرزت بين الطلاب اليساريين خاصة الأفكار المؤيدة للقضية الفلسطينية.
وكل تصرفات أعلام مدرسة فرانكفورت تدل على أنهم لم يتوقعوا هذا التحول الراديكالي، وشعروا بأن الأمر خرج عن السيطرة، وبدا وكأنهم خمنوا أن الأمر سينتهي بموجة عارمة من العداء للسامية ولإسرائيل، لذا سارعوا بالوقوف في وجه هذا التطور، وأعلنوا بوضوح وقوفهم إلى جانب إسرائيل، بوصفها -كما قالوا- الملاذ الآمن لضحايا معاداة السامية المحتملين. وتبادلوا التأكيد على دعمها بكل السبل وتجاهل ما ترتكبه من جرائم.
وهذا ما يتطلب بعض التوضيح فيما يخص كل علم من أعلام المدرسة اعتماداً على مؤلفاتهم:
هوركهايمر وإسرائيل
كان هوركهايمر يرى أن معاداة الصهيونية قناع لمعاداة السامية، ومنذ عام 1960 وهو يخشى من تحالف محتمل بين أوروبا والدول العربية حول إبادة إسرائيل! وقد صاغ مخاوفه تلك تحت عنوان "معنى النازية الجديدة" فقال: "في عدد كبير من الدول الغربية أو الدول المرتبطة بالغرب تم تدنيس معابد ومبان برموز نازية وشعارات معادية للسامية، ولديّ تصور عن معنى هذا الفعل، وأنه يأتي من عبدالناصر ومستشاريه النازيين، الذين يُعتقد أنهم مدعومون من قبل بعض الجماعات في ألمانيا. على الرغم من المعجزة الاقتصادية والتسلح، فإن ألمانيا الغربية وحدها أضعف من أن تُحقق حلم القوة الثالثة أو أن تقلب الموازين. لذلك قد يكون لعدد غير قليل من الرجال الأقوياء معنى، بل وحتى مصلحة في تأييد أفكار عبدالناصر لتوسيع حملة الصراخ ضد إسرائيل إلى دول أخرى… والخطة هي تكوين القوة الثالثة القوية ضد كل من روسيا وأمريكا، وهي كتلة فاشية توحد دول العالم القديم مع ما يسمى بالشعوب المتخلفة" (الأعمال الكاملة، مج 14، ص 100). وهو يتأسف أن ألمانيا النازية قدمت للعالم الثالث نموذجاً جذاباً لمناهضة الإمبريالية!
وفي السنة نفسها (1960) كتب هوركهايمر رسالة إلى أوسكار جانس، أشار فيها إلى زيادة المظاهر النازية بشكل علني في جمهورية ألمانيا الغربية فقال:
"الخطير هنا أن الأمر لا يقتصر على ألمانيا فقط، بل في الإعلان عن مجموعة من القوى التي كان نموذجها هو عبدالناصر والنازيين القدامى في القاهرة. ولأن الشعارات المناهضة لإسرائيل أدت لتوحيد العرب فمن المفترض أن تقوم الشعارات المعادية لليهود بتكوين تحالف للمشرقيين المتخلفين مع أجزاء أخرى من العالم، ممن يريدون تحرير أنفسهم من الأنجلوساكسون. وهذا ما يمكن أن يؤدي لأزمات مستقبلية، لا تختلف كثيراً عن أزمات أواخر العشرينات" (الأعمال الكاملة، مج 18، ص 458).
وفي مجلده "حول نقد العقل الآداتي" يتحدث هوركهايمر عن حرب يونيو/حزيران 1967، مدافعاً عن احتلال إسرائيل لسيناء، ويقول إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد أعدائها العرب، وإنها أمام عنف العرب المتوقع لا حل أمامها إلا أن تدافع عن نفسها بشكل وقائي مسبق وعدواني" (الأعمال الكاملة، مج 6، ص 243).
فمن الطبيعي أنه عندما يتحول بعض طلاب تيار اليسار الألماني لتأييد الفلسطينيين، ألا يتردد هوركهايمر في معارضة ذلك التيار اليساري. ولذا كتب في ملاحظاته من سنة 1969 مهاجماً التآخي بين اليسار الألماني والحركة الوطنية الفلسطينية، ويتهمهما بأنهما يناديان بإبادة الصهاينة، وأن معاداتهم للصهيونية هي مجرد قناع لمعاداة السامية (الأعمال الكاملة مج 18، في أكثر من مكان).
أدورنو وإسرائيل
أما ثيودور أدورنو فكان لا يفتأ يعلن تعاطفه مع إسرائيل وما تفعله، ويعرفها كما سيأتي بأنها "بلد الناجين من المحرقة"! وكانت لديه مخاوف مماثلة لمخاوف هوركهايمر، وقد صاغها وأعلن عنها قبله، وذلك في مقاله "ماذا يعني التصالح مع الماضي" (1959). ومما جاء فيه: "أن النموذج الفاشي يندمج اليوم ولا شك مع القومية فيما يسمى بالدول النامية؛ تلك التي تشعر بأنها مهملة في المنافسة الإمبريالية، وتريد أن تجلس على الطاولة بنفسها…" (الأعمال الكاملة، مج 10، ج 2، ص 565).
وفي 5 يونيو/حزيران 1967، كتب إلى صديقته النمساوية لوته توبيش يقول: "نحن قلقون للغاية بشأن إسرائيل، ولا يسع المرء إلا أن يأمل في أن يكون الإسرائيليون في الوقت الحالي متفوقين عسكرياً على العرب" (أدورنو/توبيش: رسائل خاصة، فيينا 2003، ص 197).
وفي اليوم التالي (6 يونيو/حزيران 1967) تحدث أدورنو في تأبين الطالب أونيسورج الذي قتل أثناء الاحتجاجات على زيارة الشاه الإيراني لألمانيا، وفي كلمة التأبين لم يستطع أن يمنع نفسه من الحديث عن الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد مصر والعرب، ومع أن إسرائيل كانت قد دمرت الجيوش العربية خلال 6 ساعات واحتلت سيناء والجولان والضفة وغزة، إلا أنه بدأ يتحدث عن التهديد الرهيب الذي يهدد إسرائيل، التي أصبحت موطناً لعدد لا يحصى من اليهود الذين فروا من الرعب [النازي]" (فولفجانج كراوشر: مدرسة فرانكفورت وثورة الطلاب، 1998، ص 241).
بعد ذلك بعامين دُعي السفير الإسرائيلي إلى فرانكفورت، فقابله طلاب يساريون (ألمان وعرب) بالصراخ والاعتراض، فشعر أدورنو بالذهول مما فعله الطلاب، حتى إنه كتب رسالة إلى هربرت ماركوزه، المؤثر في الحركة الطلابية آنذاك، عن خطورة تحول الحركة الطلابية إلى الفاشية (السابق، ص 652).
وقد أدخله هذا كله في صراع مع طلابه اليساريين، الذين أرادوا منه أن يطبق نظرياته النقدية لفضح آليات السيطرة والقمع في المجتمع ويعلن تأييده لثورتهم، فلما رفض محتجاً بأنه رجل تنظير فقط، احتجوا عليه وعارضوه، وأفسدوا محاضراته ولم يعطوه فرصة للحديث، فكانت صدمته لذلك كبيرة، حتى إنه دخل بعدها بقليل في أزمة قلبية مات بسببها.
ماركوزه وإسرائيل
أما هربرت ماركوزه فكان أقل حساسية من أدورنو وهوركهايمر تجاه النزعات العنيفة أو الرجعية في الحركة الطلابية، ولكنه كان أكثر وضوحاً في تأييده لإسرائيل والحركة الصهيونية (شتيفان جريجات: المجتمع الحر وإسرائيل، فرايبورج 2006، ص 112).
وفي سنة 1972 قام ماركوزه بزيارة إسرائيل لمدة أسبوعين، ثم نشر انطباعاته عن تلك الزيارة في "جيروزاليم بوست"، وهي الانطباعات الموجودة الآن في المجلد الرابع من أعماله الكاملة وعنها ننقل. وفي هذه الانطباعات يعلن بوضوح عن تضامنه مع الدافع الأساسي للحركة الصهيونية فيقول: "أعتقد أن الغرض التاريخي من إنشاء دولة إسرائيل هو منع تكرار معسكرات الاعتقال والمذابح والأشكال الأخرى من الاضطهاد والتمييز، وأنا أؤيد هذا الغرض تماماً" (ص 142).
ويقول: "وفي ظل الظروف الدولية الحالية يفترض السعي لتحقيق هذا الغرض أو الغاية؛ وجود دولة ذات سيادة يمكنها استقبال وحماية اليهود الذين يتعرضون للاضطهاد أو التهديد بالاضطهاد" (147).
ولم يجد غضاضة في الطريقة التي قامت بها دولة إسرائيل فقال: "إن تأسيس الدولة اليهودية لا يختلف جوهرياً عن تأسيس جميع الدول عبر التاريخ؛ حيث تم تأسيسها جميعاً من خلال الغزو والاحتلال والتمييز" (ص 148).
هابرماس وإسرائيل
وبعد وفاة أدورنو وابتعاد هوركهايمر واستقلالية ماركوزه حمل يورجن هابرماس راية مدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية. وفي هذا السياق نفسه يمكن فهم معارضته للحركة الطلابية سنة 1968 كمواصلة لمعارضة أساتذته الذين خافوا من تحولها للعداء لإسرائيل، ويلحق بذلك أيضاً تأييده الذي لا يكل ولا يمل لإسرائيل، وصمته عن كل ما تفعله في فلسطين وضد الفلسطينيين. وهو يفعل كل هذا بوعي وتصميم عجيبين، ويصرح علناً بامتناعه عن توجيه أي نقد لإسرائيل.
على سبيل المثال في سنة 2015 عندما كانت إسرائيل تدك غزة قامت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بمحاورة هابرماس وسألته عن رأيه في سياسة إسرائيل العدوانية ضد الفلسطينيين، فقال بالنص: "رغم أن تصرفات الحكومة الإسرائيلية تتطلب تقييماً سياسياً فإنه ليس من واجب مواطن ألماني من جيله تقديم مثل هذا التقييم".
فهابرماس الذي قال ذات مرة: "يجب على المفكر، دون أن يُسأل، ودون تفويض من أي طرف، أن يستخدم المعرفة المهنية التي يمتلكها في النقد والتنوير"، يرفض التعليق على أفعال إسرائيل، بل ويريد إلزام بقية جيله بالصمت حيالها.
وعندما سُئل عن رأيه في قصيدة جونتر جراس "ما يجب أن يقال" التي ينتقد فيها إسرائيل، قال هابرماس بالنص: "جراس غير واعٍ وغير متوازن واستفزازي. ولا أرى أي سبب معقول لنشره مثل هذه القصيدة. بالنسبة لي فإن الجانب الأكثر إثارة للقلق هنا أن الأبواب قد فُتحت وللمرة الأولى لوابل غامض من الأحكام المسبقة الشائعة [ضد إسرائيل]، من قبل شخص يتمتع بمثل هذه المكانة الثقافية والسياسية. وليس هناك أدنى شك لديّ في أن جونتر جراس ليس معادياً للسامية، ولكن هناك أشياء لا ينبغي على الألمان من جيلنا قولها".
وقد أثار هذا حفيظة كاتب إسرائيلي اسمه عومري بوهم، فنشر مقالاً مطولاً في صحيفة (دي تسيت) الألمانية، وجعله على شكل رسالة لهابرماس بعنوان "افتح فمك!" يدعوه والمفكرين الألمان لنقد السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ويدعو الصحف الألمانية للتوقف عن تصرفاتها المضحكة، والتي حددها بأنها عندما تريد توجيه نقد ما لإسرائيل تستكتب كتاباً إسرائيليين!
وقال بوهم إنه يعتقد حقاً أنه يوجد في ألمانيا "قمع للانتقاد العلني للدولة اليهودية". قمع يفرضه شخص ما في ألمانيا ويؤيده هابرماس، وأن الألماني لا بد أن يفتح فمه ويفرق بين الهولوكوست ومعادة السامية، وبين "انتهاكات إسرائيل الجسيمة للقانون الدولي في فلسطين" و"استخدام أساليب قمعية ضد السكان العرب في القدس". وبالطبع ذهبت صرخات الرجل هباء؛ لأن السيد هابرماس لم يغير طريقته ومنهجه في التعامل مع إسرائيل وجرائمها (دي تسيت، عدد 43، في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2015).
والخلاصة أن السيد هابرماس ومدرسته أيدوا كل أشكال التحرر الفردي والوطني إلا التحرر الفلسطيني، ووقفوا ضد الحروب كلها إلا الحروب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب. وكل هذا يثبت كما يقول شتيفان جريات خطأ من يزعم عدم وجود توافق بين الصهيونية والنظرية النقدية (جريات: السابق، ص 128).
وبسبب هذا كله لا ينقضي عجبي من رفض هابرماس جائزة الشيخ زايد للكتاب؛ فقد ظننت أن موقفه والإمارات من إسرائيل سيقرب بينهما، وسيقبل الجائزة ويهبها بعضاً من مكانته الدولية مقابل ما سيحصل عليه. ولكن الرجل خيب ظني ورفض الجائزة، كأنه يريد أن يقول إن موقفه من إسرائيل خاص وليس شمولياً كموقف أساتذته اليهود، وإنه لا يؤثر على كل قراراته، وإن صورته التي كونها لنفسه عبر تاريخه الطويل غير قابلة للمساومة فقط لأن البعض أرضى إسرائيل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.