مع الذكرى الثالثة والسبعين لنكبة فلسطين، التي تتجدد في الخامس عشر من هذا الشهر، فإن شباب وشابات فلسطين من داخل "الخط الأخضر"، وهي المناطق التي تخضع للاحتلال ويدّعي إقامة دولته عليها، يجسدون فشل الاحتلال في نزع هويتهم الفلسطينية، وذلك عندما هب الجيل الجديد الذي حمل راية النضال ضد العدو المحتل، للوقوف جنباً إلى جنب مع أهلهم من أبناء فلسطين في حي الشيخ جراح في القدس الشريف.
فقد جاء الشباب والشابات من كافة مدن الداخل المحتلة منذ عام 1948، خصوصاً مدن الشمال والساحل الفلسطيني يافا وحيفا واللد والرملة وغيرها، وأقاموا سهرات يومية في شوارع حي الشيخ جراح في مسيرة تضامنهم، ووقفوا وقفة عز وتحدّ في وجه قوات الاحتلال بشكل يومي، وكانوا على درجة عالية من المعرفة والثقافة فيما يتعلق بقضية حي الشيخ جراح بكل حيثياتها وتفاصيلها.
"حي الشيخ جراح" الذي أنشئ عام 1965 هو قرية مقدسية، أنشئت بالتوافق بين وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" والحكومة الأردنية، ويحاول الكيان الصهيوني الاستيلاء على بيوت أهل الحي وتمليكها للمستوطنين بشكل عنصري يجسد التطهير العرقي، وهو مخالف للقانون، لأن أهل الحي لديهم ما يثبت ملكيتهم لبيوتهم.
وأساس القصة هو تحالف الليكود العلماني واليمين المتطرف، يحاول من خلاله النتن-ياهو كسب أصوات اليمين المتطرف، ولكن هبة الفلسطينيين ألقت الضوء على الحدث، الذي أخذ بالتطور حتى وصل حد الاشتباكات اليومية، في موقف أعاد للإنسان الفلسطيني الكثير من الأهمية وصنع إرادته وقراره بعيداً عن توصيات التنظيمات والحركات السياسية والعسكرية.
انتصار الفلسطينيين لغاية الآن كان له عدة جوانب، أبرزها وحدة النسيج الوطني الفلسطيني، وهو ما أثبته تحرك أهل الداخل الفلسطيني، الذين أثبتوا معدنهم الأصيل وانتماءهم لفلسطين رغم طول فترة الاحتلال الذي فشل في دمجهم مع المجتمع الصهيوني غير المتجانس أصلاً.
وقد حفلت مواقع السوشيال ميديا خلال الفترة الأخيرة بالكثير من صفحات الدعم التي نشأت من داخل "الخط الأخضر" حتى وصلت ذروتها بوصول العديد من الشباب والشابات لحي الشيخ جراح، وهو المشهد الذي يجسد رفضهم حدوث نكبة جديدة وتكرار ما حدث عام النكبة من استيلاء الصهاينة على الأراضي الفلسطينية دون وجه حق.
مما يبعث الارتياح هو ما حملته تصريحات المواطنين الفلسطينيين لمراسلي قناة الجزيرة، التي عبروا فيها عن ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على الدفاع عن الأقصى، وازدرائهم لرئيس الكيان الصهيوني، والأهم هو التأكيد على سلمية تحركاتهم، التي ركزت في جوهرها على أحقية أهل الشيخ جراح ببيوتهم، ورفض المخطط العنصري للنتن-ياهو واليمين المتطرف.
على الجانب الآخر من الوطن ومن غزة، جاء النصر لإخوة الدم والتاريخ من خلال حركات المقاومة التي وحدها الموقف والاعتداء على الأقصى وحي الشيخ جراح، وقامت بتوجيه تهديد محدد في الوقت للكيان الصهيوني، وقبل تنفيذه بدأت ملامح القلق والجدية عند العدو، وكانت البداية من خلال إعلانه عن تغيير مسار الطائرات القادمة إلى مطار بن غوريون.
هذا التجانس الفلسطيني الشعبي من الشمال إلى الجنوب مروراً بمدن الوسط، الذي يأتي بعد ثلاثة أرباع قرن من الاحتلال، والعوائق التي أحدثها داخل فلسطين، وصعوبات التنقل، هو أبرز مكتسبات الأحداث الحالية التي تدور رحاها في القدس، حيث الإيمان الشعبي الفلسطيني بأنهم تعلموا من التجارب السابقة، وألا ينتظروا كثيراً من نصرة العرب، بل أن يعتمدوا على أنفسهم في صراعهم مع الاحتلال الصهيوني الهش.
على الجانب الآخر، فإن هشاشة الاحتلال التي تثبتها الأحداث يوماً بعد يوم تأتي من عدم تجانس مواطنيه متعددي القوميات والقادمين للعيش فيه بحثاً عن مكتسبات مادية وحياة أفضل، وكذلك أنه كيان في حقيقته صهيوني وليس يهودياً، بدليل الأعمال الإجرامية وكذلك اختياراتهم قيادات تحكمهم من عصابات القتل بدليل تحالف الحزب الحاكم مثلاً مع القتلة من اليمين المتطرف.
الشاهد على هشاشة الاحتلال طوال سنوات النكبة ما قاله الشيخ عكرمة صبري بوضوح وسط اقتحام الأقصى بأن "بيانات العرب والسلطة الفلسطينية وغيرهم من التنديد والشجب والتعبير عن القلق لا تسمن ولا تغني من جوع، وعلينا أن نعتمد على أنفسنا بعد الله سبحانه وتعالى". وهذا ما كان فعلاً، فقد انتصر الفلسطيني في غزة للقدس، ومن جاء إليها مشياً على الأقدام من الفلسطينيين ممن وُلدوا بعيداً عن أجواء الثورة في مدن النكبة الفلسطينية.
سلسلة صواريخ صناعة فلسطينية أطلقتها المقاومة الفلسطينية في غزة سقطت على القدس فوق رؤوس الاحتلال، فأجبرته على التراجع بسرعة، وتقييد مسيرة قطعان المستوطنين فيما يسمى "يوم القدس"، وهو يوم تحرير القدس بنظرهم من أجل سيادتهم على القدس، وهذا هو مضمون "صفقة القرن"!
"هكذا تنتصر إرادة الشعوب" هي الرسالة الفلسطينية التي يجب أن تصل لكل إنسان عربي حر، وهذا الاحتلال الذي فشل في تمزيق الهوية الفلسطينية وفشل في إضعاف المقاومة الفلسطينية رغم كل الإمكانيات الضخمة التي سخرت لهذا الهدف هو كيان هش ضعيف، وببعض الدعم للمقاومة الفلسطينية لن يبقى للمحتل وجود في فلسطين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.