رغم ما يتسبب به العلو الصهيوني من ألم ورغم ما يخلفه عدوانه من خسائر فإن هناك أملا صاعدا يكافح وسط حالة الإحباط الشاملة مسفرا عن مقاومة لا تحسب أي حساب لمعايير الربح والخسارة، والتي حسبها أنها تدافع بما تملك وتقدم نموذجا يأبى أن يتوارى إلى الظل والانهزام أمام كل ما يلحق الأمة العربية والإسلامية من ضعف ومن هوان
نموذج المرابطين في الأقصى وأمام بواباته وفي الحارات المجاورة له هو واحد من أرقى وأنبل تلك النماذج المقاومة التي تواجه بصدور عارية كل إرهاب قطعان المستوطنين ومختلف قوى الاحتلال الصهيوني فتتكفل بحراسة أقصاها وقدسها نيابة عن ملايين من الكم المهمل من البشر من المتقاعسين عن نصرتها ممن يعتبرونها إحدى أقدس البقاع لديهم ودون أن تتذرع بغياب مقومات المواجهة أمام إرادة دولية "جبارة" مصرة على اقتلاع الحق الفلسطيني من جذوره مثلما يصنعون
ليس عبثا أن تحتضن القدس كل تلك الأشكال الممانعة، فليست هذه أول مرة تقف فيها سدا منيعا أمام المؤامرات التي تطالها وترفض أية تسوية على حسابها وتمنع تصفية قضيتها، فعلت هذا حين نسفت أوهام السلام مطلع الألفين بتدشينها لعصر الانتفاضة المبارك من باحات أقصاها، حيث أعادت الأمور إلى نصابها، وقتها فرضت على الأنظمة المطبعة العودة إلى الدهاليز السرية هي التي جهرت بمعصية التعامل مع المحتل الصهيوني في فترة أوسلو مما بدد كل مساعي الإجهاز على القضية الفلسطينية. وقد فعلت نفس الشيء في ثورة البراق قبل ما يناهز القرن حين أيقظت وعي الفلسطينيين بخطورة إرهاب الجماعات الصهيونية. كذلك تفعل الآن حين تنتفض وتصحح المسار وتقلب الطاولة على كل المتآمرين وكل المطبعين
الصمود المقدسي يعطل مخططات العدو الصهيوني ولولاه لاستتبت الأوضاع للصهاينة في ملف كان وحده كفيل بإسقاط كل الصفقات المشبوهة، فهو يعيد تعريف الصراع من جديد ويعيد التذكير بالعدو الذي تناساه الناس منشغلين بصراعات مناطقية عقيمة وبالارتهان لمحاور فرقتهم وشتتت انتباههم واهتمامهم بأم قضاياهم بعد أن تم إحياء صراعات وثارات من غابر التاريخ. كل هذا كان مقصودا من أجل التهوين من خطر العدو الصهيوني ومن أجل شيطنة غيره وإحلاله بدلا عنه، ثم بعد ذلك توالت الضربات المتلاحقة على فلسطين من صفقة القرن ومن سفور الأنظمة المطبعة في عدائها لها ومن مخططات صهيونية على الأرض كالتي نشهدها في حي الشيخ جراح وفي غيره
من هنا فإن المقاومة الفلسطينية ومنها المقدسية بما تحمل من رمزية إسلامية ووطنية وتاريخية وبصلابتها في الميدان ظلت منيعة رغم مشاريع التغول السرطاني الصهيوني في عدة مجتمعات عربية، وهو ما يحرج تلك المشاريع ويجعلها محدودة الأثر، فمع كل موقف كرامة يسجله الإنسان الفلسطيني بالذات في القدس تستعيد الشعوب أجزاء من ذاكرتها فتفسد كل تلك المجهودات الرامية إلى مسخ فطرتها وولائها لقضيتها المركزية
نعم نحتاج إلى الوقت لتجاوز غسيل الدماغ الذي تعرضت له الأمة في السنوات الماضية وندرك أن الموجة التآمرية الحالية أعنف من سابقاتها، لكن الإيجابي أن خيوط اللعبة انكشفت وأن ما تم استغفال الشعوب به في فترة شرودها ثبت بطلانه وأن الدعاية التطبيعية على رداءتها نسفها نسفا ثبات الفلسطينيين وجرأتهم فأضحت فرية تنازل الفلسطينيين محط تندر وسخرية، كما أن ما قيل عن أن التطبيع سيخدم القضية قد أظهر قزمية الكيانات المطبعة فهي أدنى من أن تؤثر في الصراع مع الصهاينة هذا إن أحسنا الظن بها. أما الحقيقة الفاضحة هي أن تلك الأنظمة قد أضحى هواها صهيوني فهي تشجع أسيادها في الكيان العبري وتدعم كل جرائمهم.
الأهم من كل ما سبق هي الصورة المشرقة التي رسخها الإنسان المقدسي والتي تعود لإلهام الجيل الحالي كما كانت صور المقاومة الفلسطينية المكثفة حاضرة في وعي الأجيال السابقة على امتداد سنوات النكبة الفلسطينية.
لن يبقى أمام زيف الأنظمة إلا أسلوب القمع والبطش بشعوبها لتثبيت تطبيعها تماما كما تصنع مع الأزمات المستفحلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما سيعجل بوعي مجتمعاتنا بوحدة المصير بين التحرر الداخلي والخارجي، فالمطبع الخائن لفلسطين هو المستبد الفاسد الناهب لثروات وطنه، الشيء الذي سيرجعنا إلى المربع الأول حين لم تكن الجماهير تحدث أي تمايز بين همومها الداخلية والهم الفلسطيني
العودة إلى القدس حتمية لا انفكاك عنها ليس فقط فيما يتعلق بالعودة إلى تتبع شؤونها ونصرتها والتضامن معها وإنما أيضا في ضرورة فهم مركزيتها في الصراع بالمنطقة، فقد بات جليا أن التخريب الذي لحق بالمنطقة كان متعمدا وأن من سطا على ثورات الحرية وحور مسارها باتجاه العنف والارتباط بالأجندات الخارجية كان غرضه الوصول إلى هذه النقطة، لذلك فإن أي مشروع تغييري تحرري للشعوب العربية والإسلامية لا يضع القدس وجهته هو مشروع بوصلته مشبوهة ولن يقود إلا إلى الدمار.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.