تتعرض القضية الفلسطينية لمحاولات تصفية عبر تفتيتها إلى ملفات منفصلة، ففي البداية بعد تأسيس دولة الاحتلال عام 1948 كان تحرير فلسطين قضية جامعة تحظى بدعم شعبي جارف وتُعقد لها قمم عربية وإسلامية في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. ولكن عقب عقد اتفاقية "كامب ديفيد" بين مصر والكيان الصهيوني في عام 1979، ثم عقد الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً لاتفاقيات سلام مع تل أبيب برزت خطابات وشعارات "مصر أولاً"، وكذلك"لبنان أولاً". ومن ثم بدأت محاولات تقزيم القضية لجعلها قضية تخص الفلسطينيين وحدهم.
ورغم ما سبق فقد ظلت القضية الفلسطينية متماسكة على المستوى الفلسطيني -على الأقل- لعدة عقود، فعندما اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000 اشتعلت المناطق المحتلة في الضفة الغربية وغزة ما تتطلب من تل أبيب شن عملية عسكرية موسعة في الضفة الغربية سميّت "السور الواقي" لفرض قبضتها الأمنية على المناطق المنتفضين. ولكن عقب فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006 وما تلاها من أحداث بدأ مخطط جديد لتفتيت القضية الفلسطينية. ففضلاً عن ترسيخ ثنائية "الداخل المحتل-الشتات بالخارج" بدأت محاولات تقسيم الداخل إلى ملفات منفصلة؛ ملف غزة وحصارها، وملف الضفة الغربية والاستيطان، وملف تهويد القدس والاعتداء على المقدسات الدينية وتهجير أهلها، وملف "عرب 48" وطمس هويتهم ومحاولة تدجينهم.
ولتكريس ذلك التفتيت، حرص الاحتلال على عزل تلك الملفات عن بعضها البعض، فبينما تخوض غزة صراعاً ضد الحصار والاعتداءات الصهيونية المتواصلة، يعزز الاحتلال من التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية لمواجهة أي أنشطة مناهضة له. ومن ثم اعتدنا خلال العقد الأخير على رؤية بؤر ساخنة في فلسطين وأخرى هادئة تماماً. ثم جاءت موجة التطبيع مؤخراً من طرف بعض الدول العربية مثل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع إسرائيل لتعمل على ترسيخ عملية التفتيت وإرسال رسالة للفلسطينيين بأنهم صاروا معزولين بمفردهم. وكان من اللافت للنظر العمل على إبراز بعد شعبي للتطبيع عبر تنظيم رحلات لبعض الإماراتيين إلى الأراضي المحتلة، وظهورهم في فيديوهات مشتركة توحي بوجود علاقات صداقة وطيدة تجمعهم مع أسر إسرائيلية، ويزعمون خلالها بأن المجتمع الإسرائيلي مجتمع مسالم يتعرض لتهديدات من طرف الفلسطينيين. كذلك تم الترحيب شعبياً ورسمياً بزيارات الإسرائيليين إلى دبي وأبوظبي، وهو ما لم يحدث مثلاً في عملية التطبيع بين مصر وإسرائيل التي لم تتحول أبداً إلى تطبيع شعبي وظلت في الإطار السياسي والرسمي فقط.
وضمن السياق السابق جاءت الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة في القدس في ظل اعتقاد الطبقة السياسية بتل أبيب أن المرحلة الحالية تمثل فرصة ذهبية للمضي قدماً في تهويد القدس بالتزامن مع تراجع الخوف من ردات فعل شعبية عربية وإسلامية.
قلب الموازين
خلال محاولات أهالي حي "الشيخ جراح" والمقدسيين التصدي للاعتداءات الإسرائيلية، طالب المرابطون بالقدس خلال تظاهراتهم من المقاومة في غزة مناصرتهم والتضامن معهم، وبالفعل أعلنت المقاومة مهلة للكيان الصهيوني لوقف تجاوزاته بالقدس، وعندما استمرت التجاوزات الإسرائيلية جاء رد فعل المقاومة المكثف ليفكك محاولات الفصل بين ملفي القدس وغزة. وبالتوازي مع ذلك اندلعت احتجاجات قوية في الأراضي المحتلة كيافا واللد، ما دفع نتنياهو للاستجابة لدعوات رئيس مدينة اللد بإرسال تعزيزات من قوات حرس الحدود لفرض السيطرة على المدينة.
وشعبياً اشتعلت موجة تفاعل عربي واسع مع الأحداث على وسائل التواصل الاجتماعي، وشهدت شوارع بعض الدول مثل تركيا والأردن وجنوب إفريقيا تظاهرات شعبية ضد الاعتداءات الإسرائيلية، وهو ما يقوّض محاولات تفتيت القضية الفلسطينية وعزلها عن محيطها العربي والإسلامي، ويعيد بعث القضية الفلسطينية مجدداً كقضية مركزية للعرب والمسلمين وللأحرار ومناهضي الاستبداد عالمياً.
ضرورة إحياء مفهوم الأمة
محاولات تفتيت القضايا العربية والإسلامية ليست وليدة اليوم إنما هي قديمة عبر عنها بشكل استراتيجي دقيق مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية بالقاهرة خلال الحرب العالمية الأولى في سياق حديثه عن تجربة الشريف حسين قائلاً: "نشاطه يبدو مفيداً لنا لأنه يتماشى مع أهدافنا الآنية، وهي تفتيت الكتلة الإسلامية، ودحر الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها.. إن العرب هم أقل استقراراً من الأتراك، وإذا عُولج أمرهم بصورة صحيحة فإنهم يبقون في حالة من الفسيفساء السياسية، مجموعة دويلات صغيرة يغار بعضها من بعض، غير قادرة على التماسك.. وإذا تمكنا فقط أن ندبر جعل هذا التغيير السياسي عنيفاً، فسنكون قد ألغينا خطر الإسلام بجعله منقسماً على نفسه).
وخلال حقبة الثورات المضادة التي تلت الربيع العربي، رأينا محاولات لتعميق عمليات التفتيت والتمزيق لا على مستوى الدول العربية فقط لتصبح لدينا قضايا سوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطين وغيرها، إنما داخل كل قضية منها، فعلى سبيل المثال شاهدنا في ليبيا قضايا بنغازي ثم درنة ثم طرابلس التي حاول خليفة حفتر السيطرة عليها بدعم من بعض الأطراف الإقليمية والدولية. وبالتالي برزت في ليبيا الاعتبارات الجهوية بين الشرق والغرب والجنوب مثلما هو الحال في تجزئة ملفات غزة والضفة الغربية والقدس.
ولمواجهة محاولات تفتيت القضايا العربية والإسلامية نحتاج لإحياء مفهوم الأمة الذي يتجاوز الاعتبارات الإقليمية والجهوية والعرقية والحزبية ويستنهض الطاقات المعطلة ويوظفها في المكان الأنسب لها. ويمكن من خلاله تجاوز العديد من الصراعات المصطنعة التي تستنزف الجهود والطاقات، فهو مفهوم ديني وعقلي، حيث يقول الله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة)، وفي الحديث النبوي (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، كما أن التحديات التي تواجه شعوبنا العربية والإسلامية متشابهة وتتمثل في التحرر من الاستبداد والقمع والتبعية واستعادة الإرادة الشعبية. وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً هاماً في الحقبة الحالية يتيح تعزيز القدرة على التفاعل والتضامن والتنسيق الذي يتجاوز العوائق التي تضعها الأنظمة الاستبدادية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.