الـ22 من مايو/أيار الحالي، كان من المفترض أن يكون تاريخاً مهماً في الذاكرة الوطنية الفلسطينية؛ إذ تم الاتفاق على أن يكون هذا اليوم موعداً لإجراء الانتخابات الفلسطينية المجمعة للتنافس على الرئاسة والمجالس التشريعية بشكل ديمقراطي بعد سنوات من الفرقة والانقسام.
قبل هذا التوقيت، كان هناك مسارٌ مطول من المباحثات للتوفيق بين الفصائل الفلسطينية برعايةٍ من الأجهزة المصرية، التي ارتأت ضرورة قطع مسافة ما إيجابية في ملف رعاية المصالحة الفلسطينية ضمن عدة خطوات إقليمية متزامنة من أجل ترتيب الأوضاع مع الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن. وبناءً على ذلك، بدأتِ الأطراف الفلسطينية تُعدُّ لجولةٍ انتخابية شاملة، كان الرئيس أبومازن أعلن استعداده للدعوة إليها، حتى وصلت أعداد القوائم إلى 36 قائمة، وتخطى عدد راغبي التصويت حاجز المليوني ونصف المليون شخص بنسبة تفوق 93% من قوة من لهم حق التصويت.
قدرت مراكز صنع القرار في دولة الاحتلال الإسرائيلي أنه في حال انعقاد الانتخابات في الوقت المقرر لها من هذا الشهر وعلى هذا النحو التقنيّ المعلن، فإن الرئيس أبومازن سوف يلقى هزيمةً نكراء، والبديل، تشريعياً على الأقلّ، سيكون أغلبيةً حمساويةً، ستنعكس، بلا أدنى شكّ، إيجاباً على الوضع العامّ للمقاومة، لاسيما في ظلّ الإدارة الأمريكية الجديدة التي تتخذ موقفاً أقلّ تشدداً من الفلسطينيين، قياساً على إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وبالنظر إلى تجنب حماس إثارة الولايات المتحدة بالتصعيد مع إسرائيل أكثر من مرة في أوقات سابقة، والتزامها بالتفاهماتِ التي ترعاها مصر بخصوص القطاع.
أوصتِ التقديرات الإسرائيلية بضرورة ألا تعقد الانتخابات الفلسطينية القادمة، وذلك نظراً لعدم تجهيز بديل آمِن لرئيس السلطة الفلسطينية حتى الآن، وخوفاً من أن تؤثر محض إقامة الانتخابات على المزاج العام للفلسطينيين، بشكل ينعكسُ على أدائهم المقاوم في الضفة والقدس. ومن ثمّ، تكون المصلحةُ مشتركةً بين الاحتلال والسلطة في عرقلة المسار السياسيِّ الديمقراطيِّ الذي يهدد إسرائيل من أكثر من جانب.
في الـ30 من أبريل/نيسان الماضي، وقع ما كان يخشى منه الجميع. أعلن أبومازن تعطيل مسار الانتخابات. وقد تذرّعَ برفض إسرائيل تصويت بضع مئات من الفلسطينيين في القدس الشرقية بالانتخابات القادمة عبر البريد، واشترط شرطاً جديداً، قديماً، هو ألا تعقدُ الانتخابات قبل تدشين حكومة وحدة وطنية فلسطينية ترضى عنها القوى الدولية، واضعاً "العقدة في المنشار"، كما يقول المثل المصريُّ.
أدى هذا القرار إلى موجة غضب وإحباط عارمة في الداخل الفلسطينيِّ، على المستوى الشعبيِّ الذي كان يعول على هذه الانتخابات لرؤية وجوه سياسية جديدة بدلاً من الوجوه التي لم تعد تمتلك أي مشاريع، والمستوى الحزبيِّ، الذي كان يتعشمُ في كسب حصة من قسمة تمثيل الفلسطينيين. وكالعادة، حاول الرئيس الفلسطينيُّ التملص من مسؤوليته الأخلاقية والتاريخية تجاه الشعب الفلسطينيّ، ملقياً باللائمة على الاحتلال، وداعياً إلى انتفاضة مقاومة جديدة، بشرط أن تكون سلمية طبعاً.
بعد أقلِّ من 3 أيام على هذه الواقعة، مارس أحد الفلسطينيين المقاومةَ على نحو غير ذلك الذي دعا إليه الرئيس أبومازن. قاد سيارته في منتصف اليوم، في شهر رمضان، في ظلّ استنفار إسرائيلي كبير تحسباً لأي رد فعل فلسطيني عنيف ضدّ قرار الرئيس الفلسطينيّ المتعلق بالانتخابات، وبعد اشتباكات متبادلة على وقع رفض المقدسيين للحواجزِ الأمنية المقامة عند الأقصى، وقبل أيام من استصدار المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً بشأن مصير حيّ "الشيخ جراح"؛ وقام بفتح النار على عدد من المستوطنين، عند أحد الحواجز الأمنية، التي تفصل جنوب الضفة عن شمالها، حيث كان يعسكر جنود من القوات الخاصة الإسرائيلية تابعون للواء "جفعاتي".
أسفرت هذه العملية عن مقتل مستوطن من إحدى المدارس الدينية العسكرية، وإصابة زميله بجراح خطيرة، وجرح ثالث بإصابة بسيطة، وتمكن مُنفذ العملية من الهروب، وظلّ بعيداً عن أعين أجهزة الأمن الإسرائيلية لنحو 3 أيام، بالرغم من خطورة الموقع الذي شهد الحادثة، ومعاينة عدد كبير من الشهود لمسرح العملية، وتطعيمِ هذه المناطق بعشرات الكاميرات الذكية.
شهدت هذه العملية البطولية فصولاً معتبرة من النضال الشعبيِّ الفلسطينيِّ، حيث وزعت بعض الأسر من عرب 48 الأطعمة ابتهاجاً بالعملية على بُعد أمتار من موقع الحادث، وهرولَ الفلسطينيون إلى حرق سيارة المنفذ لطمس معالمها ومنع الأجهزة الإسرائيلية من الاستدلال على هوية صاحبها. فيما كان من تعرف على السيارة، للمفارقة، هي أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، كما أكد مراسل القناة 12 العبرية وغيرها من المصادر.
بالرغم من عدم تأكيد الانتماء التنظيميِّ للفاعلِ بعد، فإن المعلومات الأولية تشير إلى صلته بحركة حماس في الضفة الغربية، وذلك لأسباب، منها كفاءته في تنفيذ العملية على نحو يستبعد أمامه ترجيح عدم انخراطه تحت راية أي تنظيم، وهو الوعد الذي قطعتهُ حماس على نفسها صراحة وضمناً أكثر من مرة في الفترة الأخيرة، بخصوص عدم استقرار الأوضاع في الضفة، ما دامت هذه الأراضي غير مؤهلة لعقد الانتخابات، كما تقول رواية السلطة والاحتلال.
إلى هذا الحدِّ، كان تدخل حماس في المشهد مفهوماً ومألوفاً، فالحركة غاضبة ومتضررةٌ من قرار عباس الأخير، ومن المعروف أنّ لحماس خلاياها في الضفة، التي تنفذ بعض العمليات ضد قوات الاحتلال بين الحين والآخر، على أن تبارك حماس العملية، وتعلن لاحقاً عن مسؤوليتها أو لا تعلن، وفقاً للمعطيات الميدانية والتقديرات السياسية.
لكن ما استجدَّ في هذه الاضطرابات، كانت كلمة محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، التي أدلى بها على "تويتر" تزامناً وتداخلاً مع أزمة حيِّ الشيخ جرّاح. فبعد أن حيّا صمود المقاومين من سكان الحي أمام آلة الاحتلال والمستوطنين، توعد الاحتلال بالذودِ عن أهل القدس، على نحو يكشفُ انتقال المعركة، مادياً ورمزياً، من غزة إلى باقي الأراضي المحتلة.
تصريح الضيف يعني الكثير بالنسبة للمحللينَ ومتابعي الشأن الفلسطيني؛ فالرجل ألزم نفسه بردٍّ رادع للاحتلال إذا ما مضى في مخطط تهجير سكان الحيّ، وهو إلزامٌ لا ينبع، أبداً، إلا من قادر؛ لأنه، حال وقع المحذَرُ منه، ولم تقُم حماس بردٍّ يتناسب مع التهديد الذي توعدت به، والعدوان الواقع على الشعب الفلسطينيِّ، فإن ذلك يعدّ إهانةً للحركة، وهو ما تترفع عنه الحركة منذ ظهورها تحت شعار: "إذا ما قالت حماس فصدّقوها، فإن الصدق ما قالت حماس".
في وقائع سابقة كثيرة، أثبتت حماس صدق روايتها أمام الاحتلال، خاصةً في العمليات العسكرية التي يُختلف على تقدير حجمها بين الحركة وإسرائيل، وفي هذه المرة، عاودت كتائب القسام تأكيدها بالالتزام بما ورد في مضمون كلمة "الضيف"، وذلك بعد أن هتف المقدسيونَ باسمه في الاشتباكات مع قوات الاحتلال، وهو ما زاد المشهد إرباكاً بالنسبة للاحتلال.
ما أشبه الليلة بالبارحة
تشبه هذه الحالة إحدى الجولات السابقة بين الاحتلال وحماس منذ 7 أعوام، حينما أنذرتِ الأخيرة جيش الاحتلال بقصف تلّ أبيب في ساعة محددة، داعية إياه إلى الاستنفار لصدّ الضربة، وبحلول الساعة المرتقبة، وتحت تغطية وسائل الإعلام المحلية والدولية، قصفت القسام تل أبيب بأول صاروخ محلي من طراز "J-80" بنجاح، وسط ذهول من قوات الاحتلال.
لم تنتهِ الاضطرابات في الضفة والقدس بعد، وبالرغم من التضحيات، فإنّ المقاومة الشعبية، السلمية وغير السلمية، تسجل نقاطاً ومكاسب على الاحتلال المدعوم من الأنظمة العربية، وقد باتت حماس متمرسةً في إذلال الاحتلال.
ووفقاً لبعض تقديرات الموقف العبرية، فإنّ قرار تأجيل الانتخابات هو محاولة لإنعاش ميت إكلينيكياً وتأخير خبر وفاته، في إشارة لسلطة أبومازن، كما أنّ عمليات المقاومة التي يُخشى أن تزداد مع حرية الحركة السياسية المتوقعة مع الانتخابات، قد تزداد، أيضاً مع الإغلاق السياسي المرتقب. وتظلُّ مشكلة الاحتلال، كما قال نتنياهو من قبل، مع الرأي العام العربي الذي ما زال رافضاً التقارب مع إسرائيل قبل إيجاد حلّ سياسيّ عادل للقضية الفلسطينية، لا مع أنظمة التطبيع العربية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.