كوسم سلطان؛ أي بمعنى وجه القمر، واسمها الحقيقي أناستاسيا، وُلدت في جزيرة تينوس لقس يوناني عام 1590م، وهي في الأصل جارية يونانية أرسلها والي البوسنة لقصر توبكابيي في إسطنبول كهدية نظراً لجمالها، فوقع السلطان العثماني الرابع عشر أحمد الأول بحبها فتزوجها، عاشت كوسم سلطان في الفترة الواقعة بين عامي (1590م –1651م)، وتعتبر واحدة من أقوى نساء القصر في الدولة العثمانية وقتها، وأكثرهن نفوذاً، وعشقاً للسلطة، وحملت لقب (السلطانة الأم).
بوفاة زوجها السلطان أحمد الأول في عام 1617م أظهرت كوسم سلطان عشقاً متيماً للسلطة، ورفضت أن تؤول مقاليد الحكم في السلطنة للابن الأكبر للسلطان أحمد الأول الأمير عثمان ابن ضرتها وعدوتها خديجة ماه فيروز، وخوفاً من ضياع الفرصة تولى ابنها البكر الأمير مراد عرش السلطنة، تآمرت مع رجال الدولة لتنصيب شقيق زوجها الأمير مصطفى سلطاناً- رغم تحفظه- بشكل مؤقت حتى تتهيأ الظروف فيما بعد لابنها الأمير مراد لاعتلاء العرش، إلا أن الأمور صارت عكس ما اشتهت؛ فلم تمضِ سوى أشهر على تولي الأمير مصطفى مقاليد الحكم في السلطنة حتى تولى الأمير عثمان عرش السلطنة، فلم يرُق لها ما آلت إليه الأمور فتحالفت مع الانكشارية لتتخلص من السلطان عثمان الثاني، فتخلصت أولاً من ضرتها وعدوتها خديجة ماه فيروز ومن ثم دبرت عملية اغتيال السلطان عثمان الثاني.
بفعلتها هذه تهيأت كل الظروف لاعتلاء الأمير مراد ذي الـ11 عاماً مقاليد الحكم، وقد أدارت مقاليد الحكم في الدولة العثمانية بصفتها أماً ونائبة السلطان ولقبت بالسلطانة الأم، وبعد 9 أعوام من انفرادها بإدارة مقاليد الحكم كنائب للسلطان مراد الرابع الذي ريثما اشتد عوده، أمرها بقطع صلاتها برجالات الدولة، وعدم التدخل في شؤونها، فامتثلت لأوامره بعدما هددها بالنفي.
في عام 1640م ابتسم لها القدر مرة أخرى بوفاة ابنها السلطان مراد الرابع الذي أعاد للدولة العثمانية هيبتها ومكانتها بين الدول، فتولى أخوه الأمير إبراهيم مقاليد الحكم، لم يمتلك السلطان إبراهيم الأول المهارات الكافية لإدارة مقاليد الحكم، فاستغلت كوسم سلطان ضعف شخصيته وقلة خبرته، فعادت وبكل قوة لتسيّر أمور وشؤون السلطنة مرة أخرى بعد أن تحالفت مع رجال الدولة كالانكشارية.
لم يرق للسلطان إبراهيم الأول تحكم أمه في شؤون الحكم فقرر عزلها، فرفضت الامتثال لأوامره وهي التي كانت قد أنقذت حياته حينما أراد السلطان مراد الرابع قتله، فعاجلته وتآمرت عليه فعزل وأعدم بموافقة كوسم سلطان بعد عزله بـ10 أيام في 18 أغسطس/آ[ 1648م، على أثرها تولى مقاليد الحكم ابنه الطفل محمد ذو الـ7 أعوام، إلا أنه ظهر إلى جانب ذلك صراع من نوع آخر لم يكن في حسبان كوسم سلطان، خديجة تارخان والدة السلطان محمد الرابع والتي حملت هي الأخرى لقب السلطانة الأم، فسعت خديجة تارخان بكل قوتها لتحجم دور كوسم سلطان في تأثيرها على حفيدها، وكسر هيبتها، وعزلها من المشهد السياسي نهائياً.
مع اشتداد الصراع داخل القصر بين عدوتين لدودتين خديجة تارخان وكوسم سلطان التي بدأ نجم سيطرتها على مقاليد الحكم في السلطنة بالأفول رويداً رويداً لصالح خديجة تارخان، وأمام هذا الواقع الجديد والمرير نوعاً ما بالنسبة لكوسم سلطان، وفي خضم هذه العداوة التي استمرت لمدة 3 سنوات، قررت كوسم سلطان التخلص نهائياً من حفيدها السلطان محمد الرابع ذي الـ10 أعوام، لصالح الابن الثاني للسلطان إبراهيم الرابع الأمير سليمان، كون أمه لم تكن في حالة عداء معها، إلا أن خديجة تارخان علمت بالمكيدة التي تدبرها كوسم سلطان من أجل التخلص من ابنها، فعاجلتها وسارت على درب كوسم سلطان نفسه في التخلص من خصومها السياسيين في القصر، فتآمرت مع رئيس أغاوات القصر لاغتيالها وتخلصت منها نهائياً.
وبالفعل في ليلة حالكة الظلام يوم 3 سبتمبر/أيلول عام 1651م، تسرب العبيد بالخفاء إلى جناح نائبة السلطانة كوسم سلطان وهي نائمة، وأوقعوا بها حكم خديجة تارخان فقتلت خنقاً، وبقتلها خنقاً تطوى 37 سنة قضتها كوسم السلطان كنائبة السلطان في إدارة مقاليد الحكم في السلطنة العثمانية، ودفنت كوسم سلطان التي كانت حين وفاتها بعمر الـ62 عاماً بجانب قبر زوجها السلطان أحمد الأول في منطقة سلطان أحمد في إسطنبول.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.