تعرف الليدي جين غراي بملكة إنجلترا المنسية، أو أول امرأة تحكم إنجلترا، لكن لقبها الأشهر هو ملكة الأيام التسعة، فقد امتد حكمها لتسعة أيام فقط، من العاشر إلى التاسع عشر من يوليو/تموز 1553، أقصر فترة حكم لأي عاهل إنجليزي قبلها أو بعدها، وقعت خلالها صاحبة الـ16 عاماً ضحية للصراعات السياسية في المملكة، والمؤامرات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، وتسببت عائلتها في ضياعها ونهاية حياتها سريعاً، بسبب الطمع والجشع.
يُحكى أن الإمبراطور الروماني تيبيريوس أراد التخلص من أحد قادته، بعد اتهامه بالخيانة، وتمت تصفية عائلته بالكامل وكل تابعيه، لكن ابنته الصغيرة كانت محمية بموجب القانون، الذي يجرم إعدام العذراوات، فتم اغتصاب الطفلة قبل إعدامها، وكل ذنبها أنها كانت من العائلة الخطأ، لاقت الطفلة جين غراي مصيراً مشابهاً بسبب عائلتها أيضاً.
من هي جين غراي؟
وُلدت جين غراي في 1537، وضعها القدر في أحد فروع عائلة تيودور الملكية، إحدى أهم العائلات في تاريخ أوروبا، فقد كان أشهر ملوك السلالة هنري الثامن خال والدتها، ووالدها من رجال الملك، وقد اعتُقد أنها ستكون زوجة مستقبلية للأمير إدوارد، وريث العرش الذي طال انتظاره، والذي جاء إلى العالم بعد يوم تقريباً من ولادتها، وكلف الملك هنري ثلاث زيجات، حتى عطف الإله عليه أخيراً بجين سيمور، التي أعطته الابن أخيراً، وسُميت جين على اسمها.
بحكم قرابة عائلتها للملك، فقد نعمت جين بطفولة مترفة، وعاشت منعمة في ثروة عائلتها الطائلة، لكنها عانت من قسوة والدتها، وتعاملها الصعب مع جين بالأخص، والإهانات المتكررة بلا سبب واضح، ولم يختلف والدها كثيراً، مما جعل حياتها القصيرة مع عائلتها جحيماً.
لكنها كانت طفلة ذكية ومتفوقة دراسياً، وأشرف على تعليمها مجموعة من المعلمين المتميزين، على الجانب الآخر اعتُبرت أقل جمالاً من شقيقاتها، مما ساهم في حنق والدتها عليها، وقد لعب الدين دوراً مهماً في نشأتها، والإيمان بالكنيسة الإصلاحية البروتستانت كان من أهم ملامح شخصيتها.
منذ الصغر تم تعليمها وتجهيزها لتكون ملكة إنجلترا في المستقبل، بأي شكل ممكن، وكانت مجرد أداة في يد عائلتها لتحقيق مكاسبهم الشخصية، والورقة الرابحة للوصول للمكانة التي يحلمون بها، وتم إرسالها لعرين الأسد، القصر الملكي بعمر التاسعة، مع الأخذ في الاعتبار التقلبات المزاجية للملك هنري الثامن، المعروف بالقسوة والدموية والعناد، حتى إنه بدأ في فصل إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان في 1532، لرفضهم تطليق زوجته الأولى، وغير ديانة إنجلترا بأكملها إلى البروتستانت، وحتى الآن ملوك إنجلترا رؤساء الكنيسة الإنجليزية، وأعدم اثنتين من زوجاته الست ونفى أخريين، ونبذ ابنته الكبرى لتمسكها بالكاثوليكية، وتجاهل الأخرى مدى الحياة، فلم توفر القرابة منه أي ضمان سياسي أو اجتماعي.
كانت علاقة جين طيبة مع كل أبناء الملك، ماري وإليزابيث وإدوارد، وقضت معهم بعض الوقت في مناسبات متفرقة، حتى أنها كانت قريبة أيضاً من الملكة العطوف، التي كانت تحن عليها وعلى أبناء زوجها، لكن الأيام السعيدة لم تدم طويلاً، بعد وفاة الملك في 1547.
بيدق في لعبة سياسية
دور جين غراي في السياسة الإنجليزية كان مقتصراً على ما قرره الآخرون لها، بسبب صلتها الملكية، كانت بيدقاً في يد الطامعين والنبلاء، فقد حدد الملك هنري ترتيب من يخلفونه في الملك، واختار جين غراي كوريثة محتملة للعرش، إذا لم ينجب أي من أبنائه، وبعد وفاة الملك بدأت الصراعات والخلافات.
مرت جين بعدة مراحل خلال مسيرتها السياسية، فقد قام والدها بشكل أو بآخر ببيعها لخال الملك الصغير، الذي أراد استخدامها لتحقيق مكاسبه السياسية، حتى تم إعدامه بسبب الخيانة، وعادت إلى منزل عائلتها، قبل أن يشتريها دوق نورثمبرلاند تلك المرة، وقام بتزويجها عنوة إلى ابنه، حتى عائلتها أجبرتها على الزواج، ويُقال إن والدها اعتدى عليها بالضرب حين رفضت، وتم تزويج شقيقتيها بنفس الطريقة في نفس اليوم، لتضمن عائلتها شبكة من العلاقات السياسية مع أهم العائلات الأخرى.
خلف الأمير إدوارد والده، لكنه كان من جانب طفلاً صغيراً، مما جعله مطمعاً للنبلاء والمستشارين، من أجل السيطرة عليه والاستفادة من صغر سنه، ومن جانب كان مريضاً منذ ولادته، وبدا واضحاً أنه لن يعيش طويلاً، وبالفعل توفي بعمر الـ16، لكنه قبل وفاته غير وصية والده، بتأثير من دوق نورثمبرلاند، أقوى نبلاء إنجلترا، حيث قام الملك بإعلان شقيقتيه غير شرعيتين، ومنع خلافتهما له لتخوفه من توجهاتهما الدينية الكاثوليكية، وبالتالي أصبحت جين غراي رسمياً ولية عهد إنجلترا والملكة القادمة.
أول ملكة تحكم إنجلترا
حين تم إخبار جين بأن صديقها وقريبها الملك إدوارد السادس قد توفي، وأنه من المفترض أن تصبح ملكة إنجلترا، سقطت على الأرض، وأخذت في البكاء من الصدمة، كما رفضت بحماس قبول المنصب، لكن الدوق وابنة زوجها الجديد أجبراها بشكل أو بآخر على القبول، كما ضغط عليها والدها مرة أخرى للحصول على جائزته التي انتظرها طويلاً.
بعدها، خدعها كبير الأساقفة لحمل التاج، حيث برر ذلك بتجربة مقاسه قبل التعديل الأخير من أجل التتويج، لكن غرضه الأساسي كان قطع طريقها عن التراجع عن منصبها، فحين وضعت التاج على رأسها، فلا يمكنها التراجع مجدداً بعدها أبداً.
قانوناً، استبعاد الأميرة ماري، ابنة هنري الثامن، من العرش باطل، فطبقاً لقانون أصدره والدها في 1544، لا يمكن تغيير ترتيب ورثة العرش، كما كان الملك إدوارد قاصراً ولا يمكنه إصدار أمر ملكي يغير القانون، كما رفض البرلمان الملكة الجديدة، فلم يكن لتعيين جين غراي ملكة أي أساس قانوني.
لكن الدوق أجبر مجلس الوصاية على العرش على الموافقة، وهدد النبلاء المعترضين، وبقوته وحده أصبحت ملكة عنوة.
لكن العامة لم يشاركوه هذا الحماس، حيث كانت ماري ذات شعبية كبيرة، بالرغم من أنها كاثوليكية، بينما كره الجميع الدوق بسبب طمعه وسمعته السيئة، حتى حلفاؤه كانوا لا يثقون به، ويخافون سطوته وسيطرته، فقام الدوق سريعاً بإغلاق جميع الموانئ، والسيطرة على برج لندن الشهير، أهم مراكز السلطة في العاصمة، واستولى على الأسلحة والكنوز بداخله، واعتمد بشكل كبير على الدعم الفرنسي ضد ألمانيا التي دعمت ماري لقرابتها مع الإمبراطور، الذي كان نفسه مستعداً للتخلي عن قريبته في مقابل صداقة إنجلترا.
على الورق كان موقف جين والدوق قوياً، ولا يمكن لأحد الوقوف في طريق خطة الدوق المحكمة، حتى قام بالإرسال في طلب ماري وشقيقتها إليزابيث بحجة التفاهم، لكن إليزابيث التي ستصبح في المستقبل الملكة إليزابيث الأولى، أهم وأفضل ملكة في تاريخ إنجلترا، كانت حكيمة، وادعت المرض، بينما ماري كادت تقع في الفخ، حتى تم تحذيرها في الطريق وهربت، ثم بدأت الأمور في التغير سريعاً بشكل غريب.
عودة منتصرة
وجدت ماري مناصرين بين النبلاء والأغنياء، من جهة التف حولها كل الكاثوليك والمتعاطفين، وأولئك الذين أخفوا أو أُجبروا على تغيير معتقدهم، وجدوا في ماري منقذهم وعودة للدين الصحيح، في رأيهم، ومن جهة، كل من كره أو كان له عداوة مع الدوق، وما أكثر أعدائه! وفجأة تم تكوين قوات متمردة على الملكة الجديدة، وبدأت الانتصارات تتوالى.
حينها نشر الدوق إشاعات عن جيش فرنسي قادم لمساعدته، وقام بقيادة قواته بنفسه إلى المعركة بأعداد كبيرة، لكن جيشه كان مليئاً بالانقسامات والخلافات، بينما كانت المدن تعلن تأييدها لماري بوتيرة متسارعة في أرجاء البلاد، خاصة في مدينة نورويتش إحدى أكبر وأغنى المدن في إنجلترا، لكن القشة الأخيرة كانت في خيانة قادة 6 من سفن من الأسطول، وانضمامهم إلى ماري بما معهم من عتاد وسلاح ضخم، وفقد الدوق السيطرة تدريجياً، في حين تقدم جيش ماري تجاه لندن، جاذباً تعزيزات من كل مكان في الطريق، حتى والد جين تخلى عنها محاولاً إنقاذ نفسه قبل وصول ماري.
وفي الثالث من أغسطس/آب 1553، دخلت ماري لندن كملكة بصحبة شقيقتها إليزابيث، وسط تهليل واحتفالات من العامة، بعد هزيمة الدوق والقبض عليه وأبنائه، وتم إلقاء القبض أيضاً على جين وزوجها ووالدها ووالدتها ومجموعة من النبلاء، في انتظار محاكمتهم.
نهاية ملكة الأيام التسعة
بالطبع تم إعدام الدوق، في حين تم العفو عن والد جين ووالدتها، بالإضافة لعدد كبير ممن شاركوا في الانقلاب المزعوم، فالبرغم من سمعة ماري السيئة بعد ذلك، وتسميتها ماري الدموية، فإنها في بداية حكمها اتخذت نهجاً أكثر اعتدالاً، واتسم حكمها بالرحمة والعفو، خاصة على أولئك الذين سببوا لها الأذى، خاصة صديقتها جين غراي، وعلاقتهما الطيبة منذ سنوات، فكانت ماري تكن الحب والعطف لقريبتها الطفلة ذات الـ15 عاماً، وكانت مقتنعة بأنه لم يكن لها أي دور في تدبير ما حدث، وأنها لم تختر أن تكون ملكة، فرفضت إعدامها، رغم حث مستشاريها المستمر وتحذيرهم من خطورة جين، وعواقب فترة حكمها القصيرة في المستقبل، لكن ماري كانت مصممة على تجاهل الأمر.
واستمرت جين في الحبس المنزلي، في ظروف أكثر من جيدة، فكان لها من الخدم والمربيات، ومبلغ من المال كمصروف أسبوعي، وقامت على رعايتها عائلة من أصدقاء الملكة ماري، الذين عاملوها باحترام، وعاشت حياة جيدة لفترة من الزمن، وجاء عيد ميلادها الـ16، ولم يحدث شيء، وماري مصممة على العفو عنها. ثم تمت محاكمتها أخيراً، وصدر حكم إعدامها وزوجها، لكن ماري أجلت التنفيذ لأجل غير مسمى.
حتى ازداد التوتر الديني في إنجلترا، وبدأت أعمال عنف وفتنة طائفية في البلاد، وخرجت تمردات على الملكة ماري من كل مكان، خاصة مع انتشار أخبار زواجها من ملك إسبانيا الكاثوليكي المخلص، وخوف العامة من عودة سيطرة البابا والفاتيكان، حيث تحول الأمر من اختلاف ديني إلى هوية وطنية إنجليزية بروتستانتية، فغيرت ماري من طريقتها المتسامحة، واستخدمت التطرف في مواجهة الاضطرابات.
أما جين فظلت على حالها، حتى تسبب والدها في نهايتها، وقاد تمرداً فاشلاً ضد ماري، حينها أدركت الملكة خطورة وجود جين على قيد الحياة، وأمرت بإعدامها فوراً، لتنتهي حكاية ملكة الأيام التسعة بشكل مأساوي كما بدأت، بسبب طمع عائلتها واستخدامها كسلعة وأداة لتحقيق مكاسبهم السياسية.
لطالما كان يُنظر إلى الليدي جين غراي على أنها شهيدة بروتستانتية، على مر القرون نمت قصتها إلى أبعاد أسطورية في الثقافة الشعبية، من خلال السير الذاتية الرومانسية والروايات والمسرحيات، ومع ذلك كانت فترة حكمها قصيرة جداً، ولم يكن لها أي تأثير على الفنون أو العلوم أو الثقافة، ولم يتم تمرير أي قوانين أو تغييرات في السياسة خلال فترة حكمها القصيرة التي استمرت تسعة أيام فقط، ربما يكون شبابها وبراءتها الطفولية ورغبتها في مساعدة الآخرين هي إرثها الأكثر إثارة للإعجاب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.