"إن إنشاء وصيانة وتعزيز صحافة مستقلة وتعددية وحرة أمر ضروري لتنمية الديمقراطية والحفاظ عليها في أي دولة، وللتنمية الاقتصادية" (مقتطف من إعلان ويندهوك).
بنضال الصحفيين الأفارقة المستقلين، وإصرار حاملي راية الحرية والحقيقة نظّم عدد من الصحفيين الأفارقة ورشة عمل على هامش مؤتمر عقدته "اليونسكو" تحت عنوان "تعزيز وسائل الإعلام الإفريقية المستقلة والتعددية"، في مدينة ويندهوك بدولة ناميبيا. وركز المؤتمر على دور الإعلام الحر والمستقل في مجابهة حالة الضغط المستمر والعنف الممنهج الذي تمارسه السلطات ضد الصحفيين في إفريقيا. استمر المؤتمر ثلاثة أيام واختتم في الثالث من مايو/أيار عام 1991، ببيان أطر ومحددات ومعايير للحرية والتعددية والاستقلال، ودعا الدول إلى الالتزام بها، مطالباً بضمانات لحماية الصحفيين، وفتح مساحات أكثر حرية للمواطنين لممارسة حرية التعبير، في إطار الشفافية الواجب على الدول التمتع بها من غير سيطرة على الإعلام، من خلال فتح مساحات أرحب للصحافة المستقلة، تتبنى آراء مستقلة بعيداً عن رغبات النظم الحاكمة.
نضال الصحفيين الأفارقة كان له أثر كبير على مستوى العالم، لاسيما أن ويندهوك ونامبيا التي شهدت تاريخاً طويلاً من الفصل العنصري والاضطهاد أثرا في مكانتها في نفوس كل حر يسعى للحرية. ولقد كان لإعلان ويندهوك عظيم الأثر في الانتخابات التي شهدتها ناميبيا بعد الإعلان بعامين، الانتخابات التي رسمت شكل الدولة الحالية، ما كتب تاريخاً آخر مؤثراً لإعلان ويندهوك الأكثر تأثيراً.
حرية الصحافة كالماء والهواء
في إطار سعي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين لتكوين وجدان وطني مشترك، يعزز لدى المجتمع قيم الانتماء الوطني وحقوق المواطنة والانفتاح العقلي والوجداني على كل الثقافات، أطلق شعاره الخالد "التعليم كالماء والهواء"، ولأن التعليم حق لا يجوز للدولة التراخي في تقديمه، فإنه كذلك حق لكل مواطن لا يمكن التنازل عنه، فالتعليم جزء أساسي في حياة البشر كالماء والهواء، ولأن التعليم وحده لا يُنشئ الحقيقة، ولا تبنى تصورات الحكم على الشيء، وعلى رأسها على القائمين على إدارة الحياة العامة والبلاد وراسمي سياسات هذه الحياة في الدولة التي نعيش فيها، فإن حرية الصحافة ونقلها للحقيقة لا يقل أهمية عن الماء والهواء.
فبناء الوعي الجمعي الحر من غير تزييف ولا ترهيب ولا ضغوط مهمة الصحفي الحر، الذي آلى على نفسه خدمة مجتمعه ووطنه. والوطن في مفهوم الصحفي هو الشعب والأرض، ومن بعدهما يأتي النظام الحاكم، إذا عمل لصالح الأرض والشعب وعلم أن الأخير سيحاسبه إن هو انحرف. فحرية الصحافة تمكن من كشف الحقيقة، وتحافظ على استقرار المجتمع، وتضمن في النهاية العملية الديمقراطية في الدولة.
اليمين المتطرف واليسار أيضاً
ولما كانت الصحافة هي ضمير الشعب وحافظ قيمه وحقوقه، فلطالما كان صدامها لا ينتهي مع الأنظمة، لاسيما الأنظمة القمعية والدكتاتورية. فلا يزال الصحفي الحر يناضل من أجل الحقيقة، ويتخذ منها قضيته الرئيسة رغم مخاطر المواجهات، حتى بات جهاده من أجل قضيته على محورين: محور يسعى فيه من أجل شعبه وإيصال الحقيقة ولو على غير رغبة الأنظمة، والمحور الثاني نضاله من أجل تهيئة المناخ اللازم من أجل ممارسة مهنته.
وفي ذلك نضال حقوقي طويل يبدأ بمكافحة المنع انتهاء بمكافحة الاعتقال والتغييب والقتل خارج إطار القانون أو حتى بالقانون من خلال قضاء مسيس. فالصحفي الحر يدفع يومياً فاتورة باهظة جراء عمله، في زمن تقييد الحريات، حتى أصبحت الحكومات بشتى مشاربها في منطقتنا والعالم الثالث تفرض قيوداً تصادمية مع الصحافة الحرة، بهدف إيصال صوت واحد، هو ذلك الصوت الذي تريده السلطة، ولو كان على حساب الوعي الجمعي للشعب، أو على حساب الحقيقة نفسها. فلم يعد الأمر مقصوراً على حكومات اليمين المتطرف ومن مشى في ركابها، أو على تلك الحكومات الثيوقراطية أو شبه الثيوقراطية، التي تتمترس بنصوص مقدسة، ولو كانت من كتب البشر، لتركيع الإرادة وحبسها في قوالب تريدها من أجل تمرير الفعل.
هل تسمح لي أن أكتب؟
سؤال دوماً يطرح في ذهن الصحفي قبل أن يخط بقلمه خبراً أو مقالاً، فسؤال هل تسمح لي أن أكتب؟ هو سؤال الخوف الذي تراكم على مر عشرات السنوات وتراكمت معه حكايات القمع، الذي أريد لها أن تكون هاجساً مصاحباً للصحفي أينما حط رحاله وخط بالقلم. فأشكال التقييد تتنوع بين تقييد على مضمون التعبير، ما يعني أن الخطوط الحمراء تتقاطع حتى ترسم في عقل الصحفي قضباناً يسجن فيها، تبدأ من سياسة المؤسسة التحريرية المفروضة بالنتيجة من خلال منظومة المصالح، التي تبدأ بالتمويل ومن يدفع ثمن أوراق الكتابة والأقلام الرصاص وحبر الطباعة واشتراك إشارة البث في القمر الاصطناعي للراديو أو القناة الفضائية، إلى سياسة دولة المقر، أو الدولة المضيفة ومصالحها الدنيا والعليا، وصولاً إلى الأمن القومي، ذلك المصطلح المرعب الذي لم يحدد له تعريف ليظل سيفاً مسلطاً على رقبة حرية الصحافة. والطريقة الثانية هي طريقة تقييد وسيلة التعبير، بغلق الصحف أو مصادرة الأعداد أو التشويش على إشارة البث، أو حتى التهديد بكل ذلك.
هواجس تدور في خلد الصحفي قبل أن يشرع في نقل الحقيقة، فأي جزء من الحقيقة يجب أن ينقل، وأي مساحة من الحرية يمكن أن يعطى، لكن الأصعب من كل ذلك تلك الممارسات اللاإنسانية التي تمارَس على الصحفي باختطاف أبيه أو أمه وتهديده بهما، أو إرسال رسالة بأن اللعبة قد انتهت، وعليك أن تخرج من الملعب، وهو حكم بإعدام الصحفي، لا اعتزاله.
نحمل في صدورنا أمانة ونعيش بها، هي قضيتنا، نبذل من أجلها نصيباً كبيراً من حريتنا وحرية أهلنا، نعيش الخوف في دول قمعية، لو لم تنل منا بقوتها الغاشمة نالت منا بقوتها الناعمة، أو بالمصالح وتبادل الأوراق، ولأن الصحفي لن يكون ورقة يمكن تبادلها على مائدة السياسيين فإن نضالنا من أجل الحرية في معركة الوعي باقٍ ما بقيت أقلامنا وأضيئت شاشاتنا وسرى أثيرنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.