غاب اليسار بطريقة فاضحة في ساعة الضرورة، أي في لحظة الثورات الشعبية، التي يفترض أنها كانت قبلة آماله، ومصدر شرعيته، لا تزال ثمة حاجة لحضور اليسار. والمعنى أن نقص اليسار، أو إفلاسه الفكري والأخلاقي، إحدى أهم سلبيات المشهد العربي في غضون السنوات الأربع الماضية، ولعله إحدى العلامات المهمة على غياب السياسة، وإخفاق الحياة الحزبية في العالم العربي، لحقبة ما بعد الاستقلال.
ثمة استدراكان هنا، أولهما، أن ما ينطبق على تيار اليسار ينطبق على غيره من التيارات السياسية العربية، العلمانية والقومية والليبرالية، من دون أن يستثني ذلك التيارات الإسلامية المعتدلة، والمدنية.
أما الاستدراك الثاني فمفاده أن الحديث هنا يتقصد الأحزاب أو التيارات اليسارية السائدة، والتي لديها هياكل تنظيمية وبرامج سياسية، من دون أن ينفي ذلك وجود أشخاص أو مجموعات متفرقة ميزت حالها، ونأت عن هذه الأحزاب.
وفيما برر علمانيون تنكرهم للثورات، منذ بدايتها، بدعوى غلبة اللون الإسلامي عليها، بدليل انطلاقها من المساجد، فإن "اليسار" برر تنكره لها بعدم انطلاقها من مصانع، أو من غياب الشعارات المتعلقة بمصالح الطبقة العاملة، أو مناهضة الإمبريالية، كأن العالم العربي يعج بمدن صناعية، أو كأن للطبقة العاملة كتلة وازنة، ومتمحورة حول ذاتها، في مجتمعاتها. وفي الغضون تناسى هؤلاء مسؤوليتهم عن عدم وجود أحزاب عمالية، أو عدم وجود أحزاب حقيقية من أصله، إذا استثنينا الأحزاب الفولكلورية، والتي تشتغل على هامش السلطات القائمة، على غرار أحزاب ما يسمى "الجبهة التقدمية" في سوريا، وضمنها الحزبان الشيوعيان المنخرطان فيها.
التبرير الثاني لتنكر اليسار للثورات جرى بدعوى أنها لم تضع قضية فلسطين، أو قضية مواجهة إسرائيل، ومناهضة الإمبريالية، والرأسمالية المعولمة، على رأس جدول أعمالها، كأن الأنظمة التي تم الانتفاض عليها كانت تفعل ذلك، أو كأنها كانت تسمح ولو بتظاهرة (غير مرخصة طبعاً) ضمن هذا الإطار، أو كأن مناهضة الإمبريالية تتوقف على هذا الحزب أو ذاك، دوناً عن مواقف الدول او الأنظمة المعنية، التي تقتل نفسها طلباً لود الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها، متناسين أن روسيا ليست الاتحاد السوفييتي، وأن فلاديمير بوتين غير فلاديمير لينين.
هكذا يمكن القول إنه لا شيء البتة يعطي أفضلية لليسار المستهلك والمتكلّس والحائر في هويته، والذي لم يعد له قضية، بعد أن حوّل الماركسية إلى دين آخر، أو إلى مجرد فولكلور، وبات يعبد أنظمة الاستبداد، ويحجّ إلى طهران، ويرفع الرايات الصفراء، خاصة الإسلام السياسي الشيعي، ولا يبدي أي خجل لموقفه المخزي إزاء ما يجري في سوريا.
وللإنصاف فثمة على المقلب الآخر وجهة نظر يسارية مؤيدة للثورات، إذ ترى فيها تطبيقاً لبرنامجها، بيد أن مشكلتها أنها رغبوية أكثر مما هي واقعية، ما يظهر في محاولتها تلبيس الثورات لباساً طبقياً، واعتبار أنها اندلعت على أسس اقتصادية. ومشكلة وجهة نظر كهذه أنها لا تختلف عن وجهة نظر التيارات الأخرى، قومية أو علمانية أو إسلامية من تلك التي تحاول طبع الثورات بطابعها. الفكرة هنا أن هذا القطاع من اليسار مثله مثل التيارات الأخرى لم يرَ أن ما حصل يحتمل ألواناً متعددة، وأن الثورة على النظم الاستبدادية، يمكن أن تجمع مختلف التيارات، لا سيما أنه لا يوجد تيار يستطيع نسب الثورة إليه، أو ادعاء تسييرها. وحقيقة الأمر فإن محاولة هذا اليسار عدا كونها غير مجدية ورغبوية ونظرية، فهي تنطوي على تبخيس قيمة الثورات التي تبتغي تحقيق التغيير السياسي، والتأسيس للديمقراطية والمواطنة، وبديهي أن في ذلك دلالة قصور في إدراكات الواقع.
والحال فإن القول إن هذه ثورات سياسية، ووطنية، أي عابرة للطبقات، لا يقلل البتة من حمولاتها الاجتماعية، ولا من دلالة أن الفئات الشعبية هي الأكثر حماسة لها، ولكنه يفيد بتقديم التوصيف الحقيقي والمعياري لها، وإدراك الأبعاد الاجتماعية لمعنى التحرر السياسي، والانتهاء من الاستبداد والفساد معاً، اللذين أعاقا تطور المجتمعات العربية، وحالا دون تشكلها على شكل طبقات، وكرسا الانقسامات العمودية والهوياتية، الإثنية والطائفية والمذهبية والعشائرية والمناطقية فيها، على حساب الانقسامات الأفقية التي تتعلق بالمصالح الاقتصادية والحقوق الاجتماعية.
على هذا الأساس تبدو ثورات التغيير السياسي بمثابة المقدمة التي لا بد منها للتحولات أو للثورات الاجتماعية، وعلى الأقل فهذا ما أكدته تجربة السنوات الأربع الماضية، مع كل تعقيداتها ومشكلاتها، إذ الصوت اليساري، أو الدلالات ذات الطابع الطبقي، هي أكثر خفوتاً، لمصلحة التعبيرات الهوياتية الدينية والطائفية والإثنية. وهذا الكلام لا ينفي، في كل الأحوال، وجود بُعد يتعلق بالصراع الاجتماعي، في كل ما يجري من صراعات وثورات، مع أنه ما زال بُعداً ضامراً، ولم يتمظهر بعد، للدرجة المناسبة، للأسباب التي تحدثنا عنها.
واضح أن مشكلة "اليسار"، في معظم تنويعاته، أنه أيديولوجي، ويعيش على الإنشاءات النظرية والرغبوية ومقولات الحتمية التاريخية، أكثر مما يعيش في الواقع. ويأتي في ذلك حديثه عن طبقة عاملة، وصراعات طبقية، في واقع عربي لم يدخل بعدُ عصرَ الصناعة. هذا ما تؤكده معطيات التقرير الاقتصادي العربي الموحد الذي يصدر بشكل دوري سنويا، إذ إن مساهمة الناتج الإجمالي للصناعة التحويلية في العالم العربي تبلغ 8.8% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، أما نسبة العاملين في الصناعة (الاستخراجية والتحويلية) فتبلغ حوالى 17% فقط من حجم القوة العاملة، بينما نسبة العاملين في مجال الخدمات تبلغ 60%.
القصة أننا نحتاج إلى اليسار، بقدر حاجتنا للتيارات الأخرى، للتعبير عن مختلف وجهات النظر، لكننا بحاجة أكثر وتحديداً إلى يسار يضع قضية العدالة الاجتماعية، بما هي قضية تحرر، ومساواة، وتحقيق المواطنة، أي إلى يسار يتحرر من إرث العلاقة مع الاستبداد، ومن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا، لأن الزمن تجاوزها، ولأنها لا تصلح لمجتمعاتنا ولأنها تبرر الاستبداد.
نحتاج إلى يسار يتصالح مع الليبرالية بما هي قضية حرية واستقلالية للأفراد، وتحرر فكري وسياسي، ومع الديمقراطية كشكل لتداول السلطة والتمثيل في المجتمع. نحتاج إلى يسار يشكل امتداداً، أو تطويراً، لمساهمات قدمها مفكرون يساريون نقديون من مثل الياس مرقص وياسين الحافظ ومهدي عامل وفؤاد مرسي، وللمراجعات اليسارية التي اشتغل عليها فالح عبد الجبار وفواز طرابلسي وماهر الشريف وعصام الخفاجي وجاد الكريم الجباعي، وآخرون كثر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.