الغريزة هي طاقة نفسية تدفع الإنسان إلى هدف معين، من أجل المحافظة عليه كفرد أو من أجل المحافظة على النوع ككل. وتبقى الغريزة شيئاً فطرياً في جميع الكائنات الحية، لا يمكن تجاوزها أبداً، ولكن الإنسان- كما قال فرويد- يتميز عن باقي الكائنات بالكبت. وهذا ما جعله يتسامى عن الدورة البيولوجية، ليبني الحضارة الإنسانية.
فبعملية الكبت، استطاع الإنسان أن يُحول الطاقة الجنسية إلى طاقة إبداعية، وهذا ما يُسمى في التحليل النفسي "الإعلاء والتسامي". فعوض أن يلبي الإنسان دوافعه الغريزية الآنية، فإنه يحاول كبتها، مع توجيه تلك الطاقة التي تُعتبر في نشاطها طاقة "تدميرية"، إلى فعل خلاق، كالفن أو التأمل أو الرياضة… وما إلى ذلك.
وقد تحدث شوبنهاور أيضاً عن العباقرة الذين يقومون بتحدي الإرادة (بالمفهوم الشوبنهاوري) ويخرجون عن إطارها، ليصنعوا التاريخ، فحسب اعتقاده فإن الإرادة تحكم كل الكائنات بمن فيها الإنسان، فتحصرهم في نطاق الحياة، والرغبة في الاستمرار، بتلبية النزوات والأهواء، لكن على مستوى الإنسان هناك من يتحدى هذه الإرادة كالزهاد والعباقرة (والمنتحرين كذلك)، الذين يحاولون التسامي أكثر عن الدورة الأبدية التي تفرضها عليهم الإرادة.
لكن لماذا قام ويقوم الإنسان بهذا الكبت، ويتحدى الإرادة الطبيعية (بلغة شوبنهاور)؟
إن الإنسان ليس مجرد حيوان تحكمه الحتمية الحيوية التي تعتمد على أساس (اللذة والألم)، فالإنسان إن أحس بالألم لا يعني أنه سيبحث بالضرورة عن اللذة لتخفيض شدة الألم، وإنما يمكن أن يتحمل الألم (تحمل الألم هو جزء مهم من إرادة القوة- بلغة نيتشه) ويتغاضى عن اللذة. لماذا؟
قسم أفلاطون الروح الإنسانية إلى ثلاثة أقسام: العقل ويقع في الرأس، والثيموس (الجانب الغضبي في الإنسان) ويقع في الصدر، والرغبة التي تقع في البطن والجهاز التناسلي. وعلى هذا التقسيم قسّم جمهوريته إلى ثلاث طبقات (طبقة الملوك الفلاسفة، والحراس، والطبقة الثالثة تشمل الحرفيين والعبيد…).
ثم جاء هيغل وتحدث عن الثيموس بصيغة أخرى، وهي "الصراع من أجل نيل الاعتراف" في مقابل الصراع من أجل البقاء، فأشار إلى جدلية العبد والسيد؛ حيث تصور أنه في مرحلة تاريخية (ميتافيزيقية طبعاً)، تصارع أثناءها شخصان، ليس لغرض غريزي، وإنما لغرض أن ينال كل منهما اعتراف الآخر. وفي الأخير انتهى الصراع بينهما بأن استسلم أحدهما للآخر، فأصبح تابعاً له، يخدمه بكل طاعة، فأصبح المُعتَرِف عبداً، والمعتَرَف به سيداً.
فالشخص الذي استسلم خاف من الموت وأضحى عبداً، بينما الآخر استمر في القتال من أجل نيل الاعتراف ولم تُهمه اللحظة الآنية، حيث فضَّل الموت عن عدم اعتراف الآخر به، إذاً العبد أخذ بناصية الغريزة وترك ناصية الثيموس (الكبرياء)، بينما السيد فعل العكس، فصار العبد عبداً، لأن السيد قد حافظ على حياته ولم يقتله.
هذا ما تحدث عنه هيغل في قطعة من فيمينولوجيا الروح، وشرح ألكسندر كوجيف هذا بالتفصيل. وأيضاً أشار إليه فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ).
ما علاقة هذا بالسؤال الأول؟
إن الإنسان يتميز إلى جانب العقل والغريزة، بجانب آخر وهو الجانب الاعتزازي (الثيموس)، مصدر الكبرياء. فالإنسان سيتخلى عن اللذة إن كانت تمس كبرياءه، وهذا التخلي هو ما يعنيه التحليل النفسي بـ"الكبت".
إن الكبرياء تجعل الإنسان يبحث عن الاعتراف به على أنه إنسان، فإن تعامل معه غيره بطريقة لا إنسانية، فإنه يغضب وينتفض ضد هذا، لأن ذاك الغير استنقص من قيمته. حتى ولو كان هذا الغير يُساهم في بقاء الإنسان على قيد الحياة.
تخيلوا مثلاً موظفاً يعمل في معمل، وهذا المعمل يديره رب عمل متعجرف، ودائماً ما يصرخ في وجه العمال. فالموظف يعمل من أجل أجر يُحافظ به على حياته، فإن قام رب العمل بتذليله، فإن الموظف يجد نفسه أمام قرارين: إما أن ينتفض ضد رب العمل ويخسر وظيفته وينصر كرامته، وإما أن يتخلى عن كرامته ويستمر في العمل.. نعم إنه قرار بين الكرامة والغريزة.. فماذا سيفعل؟
إن نصر الكرامة يعني نيل الاعتراف من رب العمل على أن الموظف إنسان، أما نصر الغريزة فهو تبرير الموقف بالآنية على أن رب العمل يتحكم في مصير الموظف.
إذاً إما الاعتراف أو الآنية.. ولكن ماذا تعني الآنية؟
الآنية هي الحكم على الزمان (ماضيه ومستقبله) بـ"الآن"، مما يعني أن موقفك الآن يجعلك تفهم الماضي والمستقبل على أساسه، فإن كُنت عاطلاً عن العمل الآن، فالماضي الذي كنت فيه عاملاً لا يعني شيئاً، والمستقبل الذي سيأتي، تُسيطر عليه فكرة الاستمرار في البطالة.
أما بالنسبة للموظف، فإنه يعمل في شركة مع رب العمل، فالآنية تجعله يرى الماضي بأنه لا قيمة له، حتى ولو كان فيه آنذاك حراً. وينظر إلى المستقبل على أنه مرتبط بإرضاء رب العمل، وهكذا يحاول المحافظة على الآنية كما هي، حتى لا يقلق على مستقبله. فهل هذا فهم حكيم للواقع؟
قال نيتشه- بتصرف: "ستظهر وحوش بلا صدور"، أي بلا كرامة (قلنا إن أفلاطون وضع الكرامة على مستوى الصدر)، لأن منطق المال سيُسيطر على المصير البشري (وقد كان نيتشه من أبرز اليمينيين تطرفاً في نقد الرأسمالية وديمقراطيتها)، فالمال أصبح المعيار السامي لتقييم الأشياء، فالأشياء الجميلة هي الأشياء الغالية والأشياء القبيحة هي الأشياء الرخيصة، والإنسان النبيل هو الغني والإنسان الحقير هو الفقير.
إذاً الآنية في واقعنا مرتبطة بالمال، إن كنت فقيراً الآن، فلا يهم إن كنت غنياً من قبل، ولن نُتعب أنفسنا لنفكر كيف ستكون مستقبلاً، فالحالة الوحيدة التي يمكن أن نعطيك فيها تقييماً هي الآن، وهي ترتبط بالمال. إذاً سيطرة التقييم المالي هي سيطرة آنية، وليست زمانية، وقد لاحظ هذا جورج لوكاش وهربرت ماركيوز، واعتبرا أن الرأسمالية تستمد منطقها العلمي من "الوضعية" التي تحصر كل الواقع في "هنا والآن"؛ أي أنها تُجمِّد الواقع وتجعله شيئاً، منتزعة إياه من مساره التاريخه وتطوره الضروري.
لهذا يبقى تقييم الوضع الواقعي بمعيار المال، تقييماً واهياً، لا يُعطي قيمة للماضي ولا للمستقبل. عكس الكرامة التي تبحث عن اعتراف شامل بالإنسان في الزمان ككل، فهي لا تحكم على الآنية "كيف هي"، بل على الوضع الإنساني "كيف هو"، لا يهمها "الوضع المالي"، وإنما الوضع الإنساني، فهي قد تُغامر بالمعيار المالي، من أجل معيار سامٍ؛ وهو نيل الاعتراف بالذات الإنسانية. لهذا يكون موقفها الآني عبارة عن مخاطرة، أما موقفها في الزمان فهو عبارة عن "وعي إنساني"، يتجاوز الآنية.
إذاً هناك من يصارع من أجل البقاء، وهناك من يُصارع من أجل الكرامة والاعتراف. هناك من يرغب في عيش الواقع كما هو، وهناك من يرغب في عيش التاريخ وتغيير وضعه. هناك من يأخذ الحياة بطبيعتها الحيوانية، وهناك من يأخذ الحياة بطبيعتها الإنسانية. هناك من تطابقه قولة: "ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع"، وهناك من تطابقه قولة: "نعيش كراماً أو نموت كراماً".
فهل الأولوية للغريزة؟ أم الأولوية للكرامة؟ وما هو القرار الحكيم؟
يعتقد هيغل ونيتشه أن الثورة الفرنسية هي ثورة "الكم" ضد "القوة"، فالإقطاعيون قلة ولكن أقوياء، بينما عامة الشعب كُثر ولكن ضعفاء. فمن انتصر في الأخير: هل القوة أم الكم؟ بالطبع انتصر الكم (وهي صيغة الديمقراطية). لأن الكم هو البنية التحتية للمجتمع (ليس مصطلحاً ماركسياً) أما القوة فهي البنية الفوقية.. إن القوة تُبنى على الكم، بينما الكم لا يُبنى على القوة.. ولكن كيف اتحد عامة الشعب في كَمٍّ أسقط قوة الإقطاعيين؟
لقد تبنى عامة الشعب الفرنسي الوعي الإنساني، الذي تحاوز الآنية وأحس بالمصير المشترك، فلم يأبه بماذا يحل به الآن، وإنما كان يهمه ماذا يجب أن يكون عليه الواقع الإنساني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.