بعيداً عن الأجواء الاستبدادية التي تسود أغلب بلاد العالم العربي، يوجد جدل بين المنظرين الديمقراطيين في الغرب حول الشكل الأمثل للديمقراطية. فعلى سبيل المثال هل الأفضل الحد من المشاركة السياسية للجماهير في صناعة القرار، بحيث تحكم النخب المتخصصة وفق ما تدعو له "النخبوية التنافسية"، أم الأفضل تعزيز انخراط الجماهير في صناعة القرار وفق ما تدعو له "الديمقراطية التشاركية"؟
النخبوية التنافسية وجذورها
تعود جذور النخبوية التنافسية إلى عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920)، الذي جادل بأن النظام السياسي الليبرالي يقوم على أسس إجرائية تستند إلى حرية الاختيار في عالم عقلاني، ومن ثم شدد على وجود تلازم بين العقلنة والبيروقراطية، بحجة أن التعقيد المتزايد للمهام الإدارية يتطلب تفوقاً تقنياً لا يتوفر سوى لدى الخبراء، وأضاف أن غياب الإدارة الماهرة سيحول الشؤون العامة إلى ساحة للاقتتال بين مجموعات المصالح المتنافسة. ومن ثم جادل فيبر بأنه لا غنى عن البيروقراطية في ظل ضخامة حجم المجتمعات الحديثة وتعقيدها وتنوعها، بشكل يجعل الديمقراطية المباشرة غير مناسبة كنموذج عام للتنظيم السياسي؛ نظراً لأنها تؤدي إلى ضعف الإدارة وانخفاض الكفاءة وعدم الاستقرار، فضلاً عن محدودية قدرة الممثلين السياسيين للجماهير في الديمقراطية المباشرة على إدارة التفاوض والتداول في ظل محدودية التفويض الممنوح لهم.
ولضبط السلطة البيروقراطية، دعا فيبر إلى تبني نموذج الحكومة البرلمانية، باعتبار أن البرلمان يوفر منتدى لمناقشة السياسة العامة، وللتفاوض حول المواقف، وللتعبير عن الأفكار والمصالح المتنافسة. وخلص إلى أن الإدارة البيروقراطية والنظام البرلماني قادران على إدارة تعقيدات ومشاكل السياسة الحديثة.
طور جوزيف شومبيتر (1883-1950) تنظيرات فيبر، وقال إن الديمقراطية لا يمكن أن تصنع مجتمعاً منظماً ذاتياً يسترشد فقط بالصالح العام، حيث رأى الديمقراطية من منظور صراعي تتنافس فيه المصالح المختلفة، في ظل اختلاف القيم والتفضيلات. ومن ثم تبنى شومبيتر "النخبوية التنافسية" التي تعتمد على الحد الأدنى من المشاركة الشعبية الكافية لإضفاء الشرعية على تنافس النخب السياسية للوصول إلى الحكم، في حين يقوم الشعب بدور الحكم بين النخب المتنافسة لضمان وصول أكثر المؤهلين إلى مناصب القيادة السياسية. ودعا شومبيتر إلى تقييد السيادة الشعبية، بحجة أن الجماهير تتسم بالعاطفية في التفكير، والجهل، وعدم التخصص، وضعف الخبرة بالشؤون العامة، وإمكانية الوقوع تحت تأثير قوى خارجية، ما يُشكل إرادة مصنعة لا تعكس الإرادة الشعبية الحقيقية.
النقد الموجه للنخبوية التنافسية
تنوع النقد الموجه للنخبوية التنافسية، ومن أبرز تلك الانتقادات ما طرحه الديمقراطيون التشاركيون الذين وجهوا نقداً استلهموه من نتائج الدراسات التجريبية لواقع الديمقراطية التشاركية في مدينتي بورتو أليغري وبيلو هوريزونتي بالبرازيل. فقد عاشت البرازيل تجربة تحديث خلال أول ثمانية عقود من القرن العشرين، أسفرت عن إنشاء بيروقراطية متخصصة لم تكن قادرة على تلبية الاحتياجات الاجتماعية الملحة للبلاد، بل زاد في ظلها تدهور الخدمات المقدمة للمواطنين بالتوازي مع انتشار المحسوبية والفساد. لكن مع انتهاء حقبة الحكم العسكري وتشكيل دستور جديد في عام 1988، سُمح بمشاركة ممثلي الجمعيات الأهلية في عملية تخطيط المدن، وبمشاركة الجمعيات المدنية في تنفيذ سياسات الرعاية الصحية بالتزامن مع اعتماد فكرة الموازنة التشاركية، التي تهدف إلى معرفة أولويات الاستثمار لكل حي ومنطقة ومدينة بشكل عام، بالتوازي مع مراقبة الميزانية من قبل جمعيات الأحياء.
ولعبت تجربة الموازنة التشاركية بالبرازيل دوراً في ضمان شكل من أشكال التداول العام، يجعل الوصول إلى المعلومات الخاصة بالسلع والخدمات العامة متاحاً. ورغم أنه في البداية ظلت المشاركة منخفضة للغاية في المناطق التي لا يوجد فيها تقليد للمشاركة أو تنظيم مجتمعي، لكن بمجرد أن ظهرت فاعلية العملية ازدادت نسبة المشاركة، ما أظهر خصائص عقلانية، وبالأخص فيما يتعلق باستعداد الفاعلين الاجتماعيين للمشاركة في الأشكال الجماعية والعامة للمداولات، بشكل دعم مقاربة توسيع السيادة الشعبية.
كما أسهمت عملية مراقبة الميزانية العامة من قِبل الجماهير في التغلب على مساوئ النماذج النخبوية التنافسية، عبر تقديم حلول أكثر ديمقراطية، تُسهم في تعزيز فهم السكان بشكل أفضل لمشاكل مناطقهم، وتجعل القرار الإداري أكثر كفاءة، وتُقلل من حجم الفساد. بل وأظهرت الأدلة التجريبية أن المواطنين في حال حصولهم على بعض المعلومات والوقت اللازم للنقاش يصبحون قادرين على فهم القضايا المعقدة، بل والتقنية، والتوصل إلى استنتاجات ذات صلة حول المسائل العامة الهامة المعروضة للنقاش. وهو ما يقوض التعارض بين العمل الجماعي والمؤسسي الذي تفترضه النخبوية التنافسية.
كما جادل الديمقراطيون التشاركيون، بأن الأدلة التجريبية للموازنة التشاركية في مدينة بورتو أليغري البرازيلية أظهرت أن المشاركين يهتمون بالصالح العام، حيث لا ينظرون بشكل ضيق إلى أحيائهم ومناطقهم، إنما ينظرون إلى مصلحة المدينة ككل، ويعتبرون أن مصلحتهم الفردية ترتبط بمصلحة مجتمعهم. وهو ما يدحض رأي شومبيتر.
وفي المحصلة يُشدد الديمقراطيون التشاركيون على أن توسيع المشاركة الشعبية يُسهم في الحد من الفساد وتعزيز الشفافية والحكم الرشيد، ويُسهم في بناء القدرات، ويعزز من دمقرطة المؤسسات الحكومية، ويقلص من سلطة مؤسسات الدولة التي تقودها النخبة. ويجادلون بأن النظرية الديمقراطية التشاركية تكفل للمواطنين الحق في المشاركة في صنع القرار فيما يخص حياتهم الجماعية، وتتيح لهم التواجد داخل هياكل السلطة، بما يُسهم في تمكين المواطنين من تطوير الذات وتعزيز شرعية نظام الحكم.
النقد المضاد
رغم الجوانب الإيجابية للديمقراطية التشاركية فإن النظرية الديمقراطية التشاركية تعرّضت لانتقادات قوية، تمثّلت في أنها غالباً ما تبدو مثالية غير قادرة على مواجهة قيود التعقيد الواقعية، حيث يتطلب تنفيذها إعادة هيكلة عميقة للمجتمع، من أجل تأسيس مجتمع تشاركي، وتصحيح التفاوتات الواسعة التي تركز السلطة في أيدي النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بشكل يؤثر على قدرة المواطنين على المشاركة، وهو أمر صعب، خاصة في ظل تدهور دور المؤسسات النقابية، وتغيّر أنماط المشاركة السياسية، فالأفراد قد يجدون عملية صنع القرار مرهقة، تتطلب وقتاً وموارد غير متاحة لهم، ما يدفعهم للانسحاب إلى حياتهم الخاصة.
وبعيداً عن الجدل الإسلامي العلماني حول الديمقراطية وتطبيقاتها في العالم العربي، وأوجه الالتقاء والافتراق بين الديمقراطية والشورى، إلا أن نموذج الديمقراطية التشاركية يمكن الاستفادة منه في تقوية المجتمعات المحلية التي تعرضت للإضعاف المتعمَّد على يد أنظمة سلطوية، وهو ما سيختلف مقدار نجاحه من مكان إلى آخر، حسب الثقافة السائدة والبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموجودة في كل بلد.
المصادر
- Carole Pateman. 2012. "Participatory Democracy Revisited." Perspectives on Politics 10.
- David Held, Competitive Elitism and the Technocratic Vision in Models of Democracy.
- David Plotke. 1997. "Representation Is Democracy." Constellations 4(1).
- Leonardo Avritzer. 2007. "Modes of Democratic Deliberation: Participatory Budgeting in Brazil." In Democratizing Democracy: Beyond the Liberal Democratic Canon, ed. Boaventura de Sousa Santos. London ; New York: Verso.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.