في غالب الأحيان كلما تذكرت أجواء ثورة يناير/كانون الثاني التي عايشتها، أتذكر معها مباشرة صوت الشاعر المصري مصطفى إبراهيم في قصيدته العامية "مانيفستو" وهو يقول: "والتاريخ ضمن الغنايم.. وبيكتبه الكسبان"، كلمات القصيدة كتبها في أجواء ملتهبة، ولا تُفهم معانيها إلا في مثل الأجواء التي كُتبت فيها، أجواء الثورة.
أعلم جيداً أن شريحة عريضة من أجيال معاصرة الآن لم تعش هذه الأجواء ولا تعلم عن الثورة الكثير، اللهم إلا(الثورة المتهمة)بكل بلية كما يردد دوماً الرئيس المصري ونظامه وإعلامه.
وهنا تكمن أصل المشكلة، فبعد الأحداث التي شهدتها مصر عقب الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013 سار النظام المصري يعتمد في تثبيت أركان حكمه على ركيزتين أساسيتين هما الأجهزة الأمنية والإعلام، والذي لايُنكر أحد مدى تأثيره على قاعدة كبيرة من الشعب المصري الذي ليس له انتماء أو توجه سياسي. ويبرز في هذا الجانب سلاح قوي وهو السينما والدراما التلفزيونية، التي من شأنها توجيه الرأي العام أو وصف فصيل من الشعب بما يريده النظام أو استخدامه في تطهير ساحته وتبرئة نفسه من انتهاكات ارتكبها أو يرتكبها بحق الشعب.
وهذه الطريقة يُعاد صياغة التاريخ بشكل مشوّه ومزيف كما يريده الممول فقط، رغم وجود شواهد كثيرة وشهود عيان عايشت هذا الذي يُحرف الآن أمام الجميع. ولأن ما يتم عرضه يُصنع على عين الأجهزة الأمنية وتحت حكم الحديد والنار بشهادة الجميع ووفق الكثير من التقارير والتحقيقات الصحفية، تُصبح أحداث المادة المقدمة من جملة غنائم اكتسبها مَن تفرّد عنوة وجاء إلى سُدة الحكم بقوة السلاح.
وأما عن الجيل الذي لم يُعايش تلك الأحداث التي مرت بالبلاد ولا يُعرض أمامه سوى مادة درامية مقدمة من طرف واحد مصحوبة بمؤثرات صوتية وبصرية ومسخّر لها كل مقدرات الدولة لصناعتها وإخراجها، فيصبح من السهل تصديقها، لا سيما إن كان الطرف الآخر إما مقتولاً أو معتقلاً أو تم إبعاده خارج البلاد ولا يملك أدوات كالتي بيد نظام كامل يسعى بكل إمكاناته لتجميل صورته وإيجاد أعذار لكل شائبة وقعت منه أو أن يرد على حصره في دائرة الخيانة والعمالة والإرهاب.
الاختيار
في شهر رمضان من العام الماضي عرضت بعض القنوات المصرية مسلسل تلفزيوني تحت اسم "الاختيار 1" أحداثه باختصار تدور حول حياة قائد الكتيبة 103 صاعقة بالجيش المصري العقيد أحمد منسي. قُتل في كمين "البرث" بمدينة رفح شمالي سيناء أثناء التصدي لهجوم جماعات مسلحة وتكفيرية في يوليو/تموز 2017.
وفي شهر رمضان الجاري يُعرض حالياً الجزء الثاني من المسلسل "الاختيار 2" ولكن هذه المرة يتناول حياة وطبيعة عمل أفراد من الشرطة قُتلوا في الفترة بين عام 2013 حتى عام 2020، كما يتطرق للعديد من الأحداث الهامة خلال تلك الفترة كفضّ اعتصام رابعة العدوية وغيره من الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد.
في الحلقة الخامسة تحديداً من المسلسل عُرض كيف ولماذا تم فض الاعتصام، وحدث كهذا لطالما انتظره الجميع، المعارض للنظام قبل المؤيد لمعرفة كيف سيتم عرضه وتناوله، لن أخوض في هذا الأمر طويلاً فقد سبقني الكثير من الكُتاب، وخاضوا في النقاشات والسجالات، بل وعرض بعضهم مشاهد حقيقية لواقعة الفضّ سواء ما وثقته هواتفهم، أو مشاهد تم تصويرها بكاميرات تابعة لقنوات فضائية لعمليات قتل جماعي تناقض رواية النظام، وهذا ما تستر عليه صناع المسلسل ولم يبرزوه في عملهم الفني حتى يصل للمشاهد ما تم حبكه وصياغته قبل العرض.
شاهد على المذبحة
الشهود على المذبحة كُثر، ولازال غالبيتهم على قيد الحياة، وقد أدلى بعضهم بشهادته لبعض البرامج، وكان أشهرها "شاهد على المذبحة" الذي عرضته قناة الجزيرة عقب فض الاعتصام. لكني آثرت في هذا السياق ألا أتناول حديثي من جانب معارض وسأذهب بعيداً عن المعارضين وما سردوه وأيضاً ما لم يُفصحوا عنه حتى الآن وأثبته النظام المصري. وأيضاً لن أمسك عصا الأمر من الوسط، ولكن سأمسك بها من طرفها، تحديداً من جانب النظام وأُسلط الضوء على أحد رجالات الدولة الذين شاركوا في بيان الانقلاب الذي ألقاه الجنرال عبدالفتاح السيسي الرئيس الحالي، وزيرالدفاع وقائد الانقلاب حينها، رجالاتها الذين عزلهم السيسي جميعاً وبقي من نقصده مع قلة في مناصبهم حتى اليوم.
في صباح يوم السابع من يوليو/تموز وبعد إعلان الانقلاب بأربعة أيام وقعت أمام دار "الحرس الجمهوري" مقتلة، سبقت فض اعتصام "رابعة العدوية"، راح ضحيتها العشرات من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي على يد قوات من الجيش والشرطة، في نفس اليوم خرج الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، في بيان له: "إن الأزهر يأسف على سفك الدماء الذكية، ويعزي أسر الشهداء من أبناء مصر، ويطالب بإطلاق سراح المعتقلين، وعدم إقصاء أحد، مشدداً على حماية المتظاهرين"، وختم حديثه باعتكافه في بيته على خلفية ما حدث.
نسي النظام أو تناسى أن يحذف بيان شيخ الأزهر الذي بموجبه إثبات وتأكيد حالة نفاها النظام وقتها وما أعقب الحادثة حتى يومنا هذا ولم يعرض ما حدث في السياق الدرامي للمسلسل لهذه الواقعة، ولكن ظل الدكتور الطيب على موقفه لم يتغير رغم محاولات استمالته من قبل النظام أكثر من مرة، وتعرضه لمحاولات تشويه وعزل مستشاريه حتى يصبح وحيداً منفرداً، وأمور أخرى كثيرة حدثت معه لا يتسع المقال لذكرها، بل تحتاج لسلسلة مقالات.
حتى المعارضين للنظام اتهموه بـ"الولاء للعسكر"، ولم يشفع له عندهم موقفه الداعي لعدم إقصائهم من المشهد والدعوة لإطلاق سراح معتقليهم وكان أول من أعلن ذلك إضافة لطلب الحق لهم في حرية التظاهر والتعبير، دون الاعتداء عليهم وسفك دمائهم. وذلك على خلاف ما انتهجه النظام معهم من سياسة التفرقة والحزبية وتقسيم الشعب لطوائف وأن كل معارض له هو شعب آخر دخيل على الشعب المصري.
هذه المقالة ليست بصدد تبرئة أحد، فلست منوطاً بهذا، ولكن فقط أُثبت شهادة هامة شخصية لها مكانة في الدولة عاصرت عدة أنظمة ومرّت عليها الكثير من الأحداث في هذه الفترة، بدءاً من ثورة يناير/كانون الثاني مروراً بانقلاب يوليو/تموز وصولاً ليومنا هذا.
وأما عن فض اعتصام "رابعة العدوية" فقد كان للرجل موقف آخر لا نستطيع أن نغفله، حيث أصدر بياناً في نفس اليوم يعلن فيه "أن الأزهر لم يعلم بعملية فض الاعتصام إلا عن طريق وسائل الإعلام، وذلك بعد أن أعلن أسف الأزهر وحزنه على من سقطوا من ضحايا عملية الفض"، وهذا ما لم يصدره أي مسؤول في الدولة غيره.
بحسب حديث الإمام الأكبر فقد كان الأزهر الشريف يسعى في ذلك الوقت إلى جمع أطراف الصراع السياسي على طاولة حوار للوصول إلى حل سلمي بدلاً من استخدام العنف وقتل المعتصمين. ولكن سبقت طلقات رصاص العسكر وقرار الفض وكانا أسرع من خطواته وحدث ما حدث. هذه شهادة أحد المحسوبين على النظام نسجلها أيضاً للنظام وللعامة وأيضاً لأنصار الرئيس المرحوم الذي أطاح به الجيش وأهمل علاجه حتى لقي حتفه في قفص اتهام موصد بحديد وزجاج "بحسب رواية الدولة الرسمية".
في هذا السياق تعمدت أن أتريث قليلاً حتى تهدأ أجواء التراشق اللفظي وإلقاء الاتهامات بين الأطراف المؤيدة والمعارضة لهذا المسلسل لأسجل حديثي، وحتى صناع العمل وطاقم التمثيل لم يسلموا أيضاً من الانتقاد والاتهام، رغم علم الجميع أنهم يؤدون أدواراً تمثيلية، ومعظمها من وجهة نظري تناقض ما يحدث على أرض الواقع.
ما الفائدة؟
ولكن ما أستغربه الآن: ما الفائدة العائدة على النظام المصري بالتذكير بمذبحة كبرى راح ضحيتها شباب ورجال ونساء من أبناء الشعب المصري خلفت وراءها شرخاً كبيراً في جسم المجتمع بين أبنائه وتياراته باختلاف توجهاتهم يصعب علاجه على المدى القريب. حتى جماعة الإخوان المسلمين وأنصارهم لا تُذكر بحادثة الفض إلا في مثل اليوم التي وقعت فيه في الرابع عشر من أغسطس من كل عام عن طريق البيانات التي تروجها في مواقع التواصل الاجتماعي والوقفات التضامنية خارج القطر المصري وحفلات التأبين لضحاياها ومُصابيها ليس أكثر ولا أقل. هل هذا التنظيم حقاً لا زال يشكّل خطراً على الدولة المصرية كما يزعم النظام بما يوجهه للشعب المصري، خصوصاً بعد أن أعلن الإخوان أنهم ضيوف "ولاجئين" على الأراضي التركية أكبر حاضنة لهم خارج البلاد!
لا أظن ذلك.
أرى أن النظام ما زال يتبع سياسة لا تعرفها مصر ولم تعتد عليها تجاه كل معارض، وهي تقسيم الشعب لطوائف، وذلك لإيجاد مبرر واضح لإعدام وقتل وسجن كل من خالفه ويخالفه الرأي، ولا زالت دماء المتهمين الذين تم إعدامهم منذ أيام في قضية "اقتحام قسم شرطة كرداسة" غرب القاهرة شاهدة على ما أقول. ورغم ما تواجهه الدولة من أزمات حقيقية لأمنها القومي كملف سد النهضة وعدم قدرة الدولة على بسط سيطرتها كاملة على جميع أراضي سيناء، إضافة إلى حجم الدين الخارجي الذي يتضخم عام بعد الآخر، فإنها قررت إنهاء حياة الشعب في الدراما وفي الواقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.