متى كانت المرة الأخيرة التي احتفل بها لبنان بحريّة الصحافة ومؤشرات الحرية العالية؟ أو الأصحّ قولاً، متى وصل لبنان إلى هذا الدرك الأسفل من تصفيد حريّة الرأي والتعبير، ومن سجنها وراء القضبان لتبقى صورة لبنان في صحافة السلطة والأحزاب، فيما الفاجعة بأن يصل إلى حدّ توقيف الصحفيين، وحتّى الناشطين، فقط لمجرّد كلمة كُتبت أو تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي؟ لكن في الحقيقة، لم يصلْ لبنان إلى هذا الحدّ من تكميم الأفواه فجأة، فالأمر تجلّى وبدا واضحاً منذ 2005.
الاغتيالات مفتاح القمع
حكم النظام السوري لبنان قرابة الـ29 سنة، أي الفترة الممتدّة من عام 1976 وحتى 2005، بعدما اضطر إلى الخروج منه عقب اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبناني رفيق الحريري حيث نزل مئات الآلاف إلى الشارع يطالبون بخروج النظام من أرضهم، برعاية أمريكية في عهد بوش الابن الذي كان يسعى لتقليم أظافر نظام الأسد وإخراجه من لبنان.
لكن الأنامل السورية لم تكفّ عن لبنان، والتهديد اتّسع ليشمل الصحفيين المعارضين للنظام السوري وحلفائه في الدّاخل. أولى الضحايا كانت الصحفية، والوزيرة السّابقة، مي شدياق التي لطالما عبّرت عن استيائها من نظام البعث وتدخّلاته في السياسة الداخلية للبنان عبر حلفائه فكانت العبوة داخل السيّارة الحلّ الوحيد لكتم صوتها المعارض، ولكنها نجت بأعجوبة إلهيّة.
ومن ثمّ، توالت الأحداث والتهديدات حتى اغتيال الصحفي سمير القصير الذي عُرف بمعارضته الشرسة ولم يرحمهم من كتاباته ومقالاته، فكان الحلّ أيضاً، بنظرهم، الاغتيال، وذلك حصل. ليتبعه لاحقاً زميله في المهنة والنائب المعارض جبران تويني، مالك جريدة النّهار.
سلسلة الاغتيالات هذه لم تقف بوجهها الدّولة اللبنانية ولا في السعي لاكتشاف الجناة، وهي التي كانت تحتفل أنّها من الدول الرائدة في حريّة الصحافة وكانت محط تقدير نخبوي من العرب على المساحة المعطاة لهم، لكن ما من قضاء ولا محكمة فتحت تحقيقاً جدياً في هذا الموضوع ليتحوّل إلى محكمة دوليّة ما زال اللبنانيون، أو أقلّه عوائل الضحايا، ينتظرون حكمها منذ 16 سنة.
الاغتيال بوجهيه: الفعلي والنفسي
آخر الاغتيالات الجسدية لم تكن بعيدة، فكانت مع بداية العام هذا وتحديداً في الرابع من شباط/فبراير؛ حيث قتل الكاتب والناشط والباحث، لقمان سليم، بعدّة رصاصات والتحقيق ما زال صامتاً رغم أنّه يرجّح سبب الاغتيال معارضته هو لحزب الله -خصوصاً بعد تلقّيه العديد من التهديدات على باب منزله وكان قد نشرها على صفحته الخاصّة على فيسبوك- وفضح المستور فيما يتعلّق بانفجار المرفأ.
مع مرور الزمن، تطوّر اغتيال الكلمة في لبنان ليصبح نفسيّاً، وهذا لا يعني أنّ واحدة أقل خطراً من الأولى، بل على العكس، فأصبح البعض يتريّثون قبل إبداء رأيهم على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب ازدياد دعوتهم إلى "شرب فنجان قهوة" في مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتيّة المختص بالجرائم الإلكترونيّة، أمّا ما يتعلّق بالصحف أو المحطّات وحتى مواقع التواصل الاجتماعي فيجب إحالته إلى محكمة المطبوعات.
لكن هذا لم يعد قائماً في لبنان، فعند أي "غلطة" أو هفوة يتلقّى الصحفيّون أو الناشطون اتصالاً من مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية متأملين منهم زيارة في اليوم والسّاعة المحدّدة دون ذكر سبب الزيارة في أغلب الأحيان.
وهنا، يجب التوقّف عند كلمة "جرائم"، هكذا أصبحت عقوبة التعبير عن الرأي في لبنان، جريمة يجب المحاسبة عليها. في المعجم، كلمة جريمة هي أمر يعاقب عليه القانون سواء كانت مخالفة، جنحة، أو جناية. للتفصيل، في كلمة ضد العهد الحالي أو وزير فلاني أو حتى نائب، أين تكون المخالفة؟ فالدّستور اللبناني يكفل الحقّ في التعبير عن الرأي وتحديداً في المادة 13 حيثّ ينصّ الدستور على التّالي: "حرية الفرد بالتعبير عن آرائه شفوياً أو كتابياً، وحرية الصحافة" إذاً، في القانون لا مخالفة.
بالانتقال إلى الاحتمال الثاني، أي الجنحة، فذلك يعني خطأ أو إثماً، أيضاً لا يمكن أن يكون ثمن الكلمة المكتوبة هذه، الذهاب إلى مكافحة الجرائم المعلوماتية، فإنّ الكلمة الصادرة هي مجرّد تعبير عن رأي ما، بشخصية سياسية ما ربمّا مخالفة للخط السياسي، أو فاسدة وعلى أيّة حال، فالعودة دائماً وأبداً إلى الدستور الذي مجّدّداً يكفلها.
أمّا الجناية، فهي قتل، سرقة، تزوير، أو تجارة الممنوعات وحتّى انتحال شخصية، فهذا الجزء بعيد كل البعد عن الصحف والقنوات ومواقع التّواصل الاجتماعي إلا في حال انتحال صفة ولكن من المطلوبين مؤخّراً فقط صحفيون، وليس منتحلين أو مجرمين.
الوزارة والنقابة: محسوبيات سياسية
السياسة والطائفة في لبنان لا ترحمان، فلم تكتفيا إلَّا أن تأخذا مسكناً لهما في الصحافة، كيف لا وكل شيء في لبنان يسير حسب هذين الأمرين؟
وزارة الإعلام لم تكن يوماً لوزير متجرّد من التبعيات السياسيّة، فمثلاً يقال إن الوزيرة المستقيلة في حكومة تصريف الأعمال الحالية منال عبدالصّمد قريبة من رئيس حزب التقدمي الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط، وقبلها ملحم رياشي المحسوب على القوّات اللبنانية وكان عرّاب الصلح التاريخي بين الرئيس الحالي ميشال عون ورئيس حزب القوّات اللبنانية سمير جعجع حين كتب "إوعى خيّك"، ما أدّى إلى وصول عون إلى سدّة الرئاسة وبعدها التسوية الرئاسيّة بين عون ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري.
أمّا عن النّقابة، فحدّث ولا حرج.. فاز برئاستها مجّدداً الصحفي عوني الكعكي المقرّب من تيار المستقبل، والذي يعبّر بعض الصحفيين عن استيائهم منه بسبب عدم وقوفه إلى جانبهم عند التعرّض لحقوقهم أو التعدّي عليهم بالضرب أو حتى منعهم من التغطية. على طول السنوات، لم تقم النقابة باستنكار أي من الحوادث الكثيرة التي تعرّض لها الصحفيون، وتمنّعت عن إصدار البيانات حتى.
لبنان في المركز 107!
في آخر إحصاء له، أصدر موقع "مراسلون بلا حدود" التقييم والمراتب السنوية للبلاد التي تتمتّع بحريّة الصحافة، فاحتل لبنان المركز 107 من أصل 179 دولة بعدما كان في السّنة الفائتة في المركز 101، وفي علم الإحصاءات، يعتبر ذلك تراجعاً ملحوظاً.
إذاً، في حال قرأنا السردية عن حريّة الصحافة في لبنان وكيف ضُيّق عليها مع مرور الوقت رويداً رويداً، نستخلص أن "الحرية" في لبنان مجرّد حبر على ورق، ودائماً للكلمة ثمن، أكبره الرّوح وأصغره الاستدعاء والسجن أو التعهّد بعدم تكرار "الخطيّة". لا شكّ أنّ لبنان ما زال يملك هذه النافذة الصغيرة التي تميّزه عن سواه في المنطقة، وربما ذلك سببه الطوائف والأحزاب المتعدّدة، ولكن هذا لا يلغي أنّ الصحافة أصبحت في خطر، والحفاظ على القليل منها ضروري كي نستمر في الصّراع الحرّ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.