هل قرات يوماً عن طبيب تسبب في وفاة مريض، أو صيدلاني نصح مريضاً بدواء أودى بحياته، أو مهندساً تسبب في سقوط مبنى رغم حداثته؟ ولن أسألك عما إذا كان قد درَّس لك مدرس غير متمكن فأدى بك إلى كراهية مادة دراسية (مثل الكيمياء أو اللغة الإنجليزية) كانت حجر زاوية في تخصص كنت تريده (الطب أو اللغات)، وعما إذا كنت تعاني من الظاهرة نفسها (المرض) مع ابنك، لأن الإجابة معروفة. وهل تدري- قارئي العزيز- أن أحد أقوى الأسباب في كل هذه الأمراض المجتمعية يكمن بالكيفية التي اجتاز بها كل هؤلاء امتحاناتهم الجامعية، والتي لم يكن لهم اجتيازها دون ما يسمى بدرجات الرأفة؟ فما هذه الدرجات؟ وهل هي رأفة أم فساد مجتمعي مقنن؟
ما درجات الرأفة؟
بدلاً من التعريفات الرسمية، يمكن أن نذكر مثالاً يؤدي بنا إلى التعريف. فلنفترض أن طالباً جامعياً يدرس مادة في أي تخصص، ومجموع درجات هذه المادة 60 درجة، وهو مجموع شائع إلى حد كبير في تخصصات مختلفة بالجامعات المصرية. وفقاً للقواعد المعمول بها في أغلب الجامعات المصرية، ينقسم مجموع هذه المادة إلى 80% (48 درجة) تُخَصَّص لامتحان نهائي في المادة، و20% (12 درجة) تُخَصَّص لأعمال السنة. تنقسم نسبة أعمال السنة إلى 5% (3 درجات) لحضور الطالب 70% من المحاضرات (حتى وإن اقتصر حضوره على الجلوس على مقعد دون مشاركة تُذكَر)، و5% (3 درجات) لمشاركة الطالب الفعالة في المحاضرات، و10% (6 درجات) لامتحان في منتصف الفصل الدراسي.
ولو افترضنا أن طالباً ما سيحضر المحاضرات دون أية مشاركة ولن يجيب عن أي سؤال في امتحان منتصف الفصل الدراسي، فسيكون مجموعه عندئذ 3 درجات للحضور يُضاف لها صفر في المشاركة وصفر في امتحان منتصف الفصل الدراسي؛ وهو ما يعني 3 درجات من الدرجات الـ12 المخصصة لأعمال السنة.
لا يحتاج هذا الطالب أكثر من 21 درجة فقط من 48 درجة في الامتحان النهائي لهذه المادة (أي 43 % تقريباً من مجموع درجات المادة) حتى يحق له الحصول على 6 درجات رأفة تُضاف لـ3 درجات في أعمال السنة التي حصل عليها، أي 3+21+6=30 درجة. وبهذا، ينجح الطالب الذي لم يشارك في المحاضرات ولم يحصل على أكثر من 43 % في امتحان المادة. وبالمناسبة، لو حصل هذا الطالب على 20 درجة فقط من 48 درجة (مجموع درجات الامتحان) فسيضيف له الكنترول (مكتب الامتحانات) المسؤول درجة أخرى ليصل إلى 21 درجة ومن ثم يحق له الحصول على درجات الرأفة الـ6 في المادة ويجتاز الامتحان بنجاح.
يُضاف لهذه المأساة قرارات تصدر عن رؤساء أغلب- إن لم يكن كل- الجامعات بضرورة نجاح ما لا يقل عن 65% من مجموع طلاب كل فرقة دراسية مهما كانت نتائج هؤلاء الطلاب؛ وهو ما يستدعي أن ترفع إدارات الكنترول جميع طلاب الفرقة الدراسية التي لم تتحقق فيها نسبة النجاح المفروضة بقرارات رؤساء الجامعات، فتراها تضيف من درجة إلى 8 درجات كاملة لكل الطلاب (وهو ما يعني من 1.5 إلى 13% من مجموع المادة).
تعني كل هذه الإجراءات إصراراً على إنجاح طالب لم يبذل مجهوداً ليستحق النجاح، وبالتالي خريج لا يُتوقع منه إجادة ما يعمل به، بل يُتوقع منه كذلك إفساد ما يعمل به وإلحاق الضرر بآخرين كما في الأمثلة التي تقدمت.
رأفة أم فساد مقنن؟
أقول، والله شاهد على ما أقول، إن هذا الفساد المقنن الذي يُدعى- زوراً وبهتاناً- بدرجات الرأفة كان سبباً رئيساً في كل هذا الفساد المجتمعي الذي نعيشه. وأقول، كذلك، إن الاستمرار في هذه المهزلة عار على الجامعات المصرية التي تطبقه، خاصة في ظل تشبث هذه الجامعات بمصطلحات الجودة الرنانة مثل "تحقيق أعلى المعايير في التعليم والبحث العلمي"، و"الرسالة" و"الرؤية"، تلك المصطلحات البعيدة كل البعد عن مفهوم "درجات الرأفة" المزعوم.
ولعل قارئي العزيز يقول: "لكن درجات الرأفة هذه ليست رأفة بالطالب، ولكنها رأفة بأهله ممن يعانون الأمرَّين من جراء مصاريف الدراسة". يكمن الرد على هذا القول- رغم تعاطفي الشخصي مع أهالي الطلاب الذين يحصلون على درجات الرأفة- في تساؤل آخر أكاد أنسخه من مقدمتي: وهل ترضى أن تدخل غرفة عمليات وتقع تحت مشرط طبيب "ناجح بالرأفة"، أو أن يُدرَّس ابنَك مدرسٌ "ناجح بالرأفة" أو يبني لك بيتاً مهندسٌ "ناجح بالرأفة"؟ يكمن الفارق الرهيب بالمجتمع المصري في التفرقة بين العام والخاص، إذ لا يشعر معظم المصريين بمشكلة في وجود المشكلة طالما أنها بعيدة عنهم، فتراهم يتمنون نجاح ابنهم في كلية الطب بالرأفة- على سبيل المثال لا الحصر- رغم أنهم واثقون بعدم كفاءته ولا جدارته بلقب "طبيب"، مع اعتراضهم الشديد كذلك على أن يكشف عليهم أو يجري لهم جراحةً طبيبٌ من هذه النوعية، وهذا خلل مجتمعي كبير.
وقد يُقال أيضاً: "يجب أن تعمل الجامعات على إنجاح هؤلاء الطلاب، لأنه لا توجد أماكن شاغرة لزملائهم القادمين في أقسامهم حيث يدرسون". ورداً على هذا الادعاء، أقول إن هناك إصراراً غريباً على إلحاق أكبر عدد ممكن من الطلاب بالتعليم الجامعي دون حاجة حقيقية لهذا العدد الضخم؛ فمصر لا ينقصها خريجون في أي تخصص من التخصصات كما تشهد بذلك الجيوش الجرارة من الخريجين في كل التخصصات على مقاعد المقاهي.
إن ما ينقص مصر بالفعل كفاءات حقيقية قليلة تمتلك المعرفة والمهارات والكفاءة لا قطيع من أنصاف المتعلمين، ويجب أن تضع الجامعات المصرية حداً لدرجات الرأفة؛ للحفاظ على جودة وكفاءة خريجيها دونما اعتبار لأي ضغط مجتمعي.
وقد يأخذنا هذا الطرح لسؤال آخر ألا وهو: ما المكان الذي يجب أن يتعلم فيه بقية الطلاب من غير ذوي الكفاءة العلمية وما التخصص الذي يمكنهم دراسته؟ ولهذا قصة أخرى إن كانت في العمر بقية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.