"إللي ربه الفلوس.. وإللي ربه الفن.. وإللي ربه الطاغوت.. وإللي ربه ربنا"
كلمات تكاد تكون هي أبلغ ما يكون في وصف الحالة التي نعاصرها على الساحة المصرية. وانفردت تلك الجملة لتصبح أهم الجُمل الحوارية التي وردت خلال السباق الرمضاني الفني الممزوج بالتوجه العام السياسي البحت. كلمات بقلم الكاتب والسيناريست "عبدالرحيم كمال" ليلقيها علينا بالحنكة المخضرمة الفنان "طارق لطفي" في مسلسل "القاهرة:كابول".
انفردت لأنها تصف لنا التنوع الأيديولوجي الأقرب للعبادة، لتتمثل فيما بعد عبر شخصية بعينها أو فكرة ومفرداتها ويترتب على ذلك التسبيح بحمده والتمجيد في شخصه والجهاد في سبيله والدفاع عن حدوده.
فإذا كان هناك في الماضي القريب أفراد لهم توجهاتهم الخاصة يسعون بالإيمان بذواتهم وبوطنهم وقوة المشاركة الوطنية التي تضم جميع طوائف الشعب المختلفة إلى الزج بالوطن الجريح حيث يكمن الأمان.
فنحن الآن نعاصر الانشقاق والتفكك متجاوزين فكرة أننا أبناء الوطن الواحد ومتناسين النزيف المستمر منذ الربيع الفائت، ليسعى كل منا بخلق وطن جديد يتناسب مع "إلهه" ليفرض ديناً جديداً على باقي الطوائف الأخرى.
ومن يخالف ليصبح خائناً يجوز عليه الحد وألف حد ونضرب الأمثلة مؤكدين على الفجر في الخصومة بين بعضنا البعض.
نحن هنا على مشارف الخوض في مكنون السطور الأولى لنعرف من يعبد المال ومن سبح بحمد الفن ومن سجد للطاغوت ومن جاهد في سبيل الرب.
إللي ربه الفلوس
من الأرجح أن في خضم حياتنا اليومية قد نلتقي بأحد البخلاء لتجدهم أشخاصاً مثيرين للشفقة والريبة، لكن الفارق بين البخيل المُحب للمال وبين من وجد في المال إلهه.
فإن الأول له ما له وعليه ما عليه، يمارس غايته وشهوته في حيز يكاد يتسع له ومن كان ولي أمره فلا منه ضرر ولا عليه ضرار.
أما الأخير فهو من "تجار المعلومة" أي يعني بعض الإعلاميين الذين يتاجرون في المعلومات بدون حد أو مبدأ، فالمبادئ تتجزأ في الغالب لكن في "كار" التجارة الإعلامية يصعب أن تجد من يتخذ المبادئ منهجاً متحاشيًا وقوع أي ضرر على وطنه، وأما عن التاجر فوطنه الوحيد هو المعلومة التي يبيعها لمن يدفع أكثر. للقاصي والداني.. والعدو والحبيب.. ومن على حق ومن على باطل، هي في النهاية تجارة، لكن رابحة والربح هو الإله والغاية.
ولا تقتصر عبادة المال فقط على هؤلاء التجار بل كشفت فئة جديدة عن عقيدتها مع بداية انتشار جائحة كوفيد-19 حينها فقط ظهرت النوايا الحقيقية للرأسمالية المصرية؛ أي يعني رجال الأعمال المصريين الذين لم يبادروا بأي مساهمة مادية أو حتى معنوية من أجل الوطن والشعب، بالعكس.
ففي بداية الجائحة ومع اتخاذ كافة الدول التدابير الوقائية والعلاجية وحتى الاقتصادية منها هلَّ علينا الرأسماليون المصريون بالتصريحات المؤيدة لاستمرار العجلة الإنتاجية الاقتصادية ووقف حظر التجوال متجاوزين المنطق والإنسانية، غير مبالين بمدى الخطر الذي سيقع على الأيدي العاملة من انتشار الوباء بينهم، وجميع ما سبق كان باسم الوطن والمصلحة العامة للبلاد.
التضحية بأبناء الطبقة الكادحة كقرابين من أجل الغاية والإله المادي؛ فالضرر الواقع إن مات المئات، أفضل بكثير من إفلاس البلاد، وجميعها مسميات تطغى على الغاية الحقيقية.
كل هذا إلا من رحم ربي، من المستحيل أن يبقى المشهد سوداوياً لهذا الحد، فلقد بادر رجل الأعمال المصري "الحاج محمود العربي" بالتكفل برواتب موظفيه ومساندة الدولة وصرح قائلاً:
"نحن أسرة واحدة والشركة ستتحمل الأعباء.. وقررنا تبكير صرف الرواتب والمنح.. لم نقرر لحظة خفض المرتبات، نحن دائماً نرفعها.. المركب سيظل سائراً بأمان وسلام.. ربنا ينجينا منها ومن كل كرب".
لكي يلاحقه "الحاج ناصر البرنس" بالتكفل برواتب موظفيه لحين انتهاء المحنة وأيضاً التبرع بالمال من أجل مكافحة الجائحة. ومن الأكيد أن هناك آخرين مجهولين بادروا بالمساعدة.
إللي ربه الفن
من وجد في الفن إلهًا هو ذاك الذي سمح لذاته بالتناول المفرط والجلوس على كافة الموائد مبرراً غايته باسم الوطنية وأن الفن ما هو إلا رسالة للمجتمع ووسيلة لتوثيق الحقبة الزمنية. فإن كانت الثورة هي الصاعدة فهم من الثوار وأعمالهم الفنية لن تخلوا من الثرثرة عن الثورة وإنجازاتها والثوار وبطولتهم.
وإن كانت السلطة هي المسيطرة فمن الأكيد أنهم سيفعلون ما سبق وأكثر بكثير، فلن تخلو أعمالهم من التمجيد للسلطة وأذرعها ولسوف يظلون على هذا الحال حتى تنتهي الحقبة وتعاد الكرة وتقوم الثورة وتسقط السلطة وتدور الدائرة من جديد لتجدهم في صفوف الثورة وإنجازاتها والثوار وبطولتهم.
فعلى سبيل المثال إبان الربيع العربي لم تخلُ القنوات الفضائية من التمجيد والثرثرة والغناء في حب الثورة والربيع. وعلى النقيض تماماً، وتحديداً ما بعد أحداث ٣ يوليو/تموز عام ٢٠١٣، بدأت السلطة المتمثلة في القيادة العسكرية المصرية بالصعود والتبلور وتصدر المشهد السياسي وعلى إثر ذلك بدأت الأعمال الفنية في تغيير مسارها المُمجد في الثورة إلى المسار ذي الطابع الوطني الممزوج بالتمجيد في القيادة.
في السنوات الأخيرة الماضية تبنى الكثيرون من أصحاب المصالح بعض الأفكار الخاصة من ضمنها أو ربما أهمها فكرة قيادة التوجه العام واستخدام وسيلة الفن لاستقطاب فئات الشعب المختلفة، وخصوصاً الفئات العمرية التي لم تعاصر أو لم تعِ بشكلٍ كافٍ ما حدث في تلك الحقبة الزمنية.
لذلك أصبحت تبث للمجتمع أعمالاً فنية خاضعة للتوجيه العسكري تقوم على نشر الروايات ذات المنظور الواحد لا الشمولي، تحت مسمى التوثيق الحقيقي لما حدث في الأعوام الأخيرة الماضية.
وحينها بدأت الأبواب تفتح أمام من وجد في الفن إلهاً، غاضين البصر عن مدى صحة أو صدق المعلومات المقدمة من أجل فرض نظرية التوجه والمؤامرة على الوطن من قوى الشر.
فبذلك يكون القائمون على العمل الفني شركاء في الجريمة وقد ساهموا بشكل أو بآخر في تزوير التاريخ المعاصر وإهدار حق الأفراد المظلومين في الأحداث المذكورة. فمن قُتل ظلماً قدموه للناس مسلحاً، ومن سُجن ظلماً صار إرهابياً ومن عارض صار خائناً.
وكل هذا يظل باسم الوطنية والرسالة الفنية ومن أجل السلطة الصاعدة والإله المادي، غافلين عن أنهم بهذا المنهج أصبحوا شركاء في الجريمة وقد أقاموا الحد على من مات ومن عاش ومن رأى ومن يقربهم.
إللي ربه الطاغوت
لا يقتصر مفهوم الطاغوت على شخصية بعينها بل على فكر ومبدأ، من رأى بعنصرية مفرطة أنه أحق وأفضل بكثير من العوام. وأن رأيه هو الصواب وقراراته هي الأفضل، وأفعاله تسود على الجميع لأنها الأقوى والأصلح.
ولا يحق لأحد النقد أو حتى التذمر فإما الطاعة أو السحق.
الطاغوت من نسب لنفسه حق التحكم في مصائر البشر، من سمح لذاته بانتهاك الحقوق وفرض سيادته على العوام، واستباح دماءهم وأموالهم وأعمارهم وأعمالهم ومستقبلهم باسم المصلحة والمنفعة الوطنية العامة للبلاد. فالغاية تبرر الوسيلة ويظل الإله المادي هو المبتغى.
"وذلك مع توضيح الفرق بين الطاغوت المقصود في المقال هنا وبين الطاغوت الآخر ذي المنظور الديني".
وأما من رأى في الطاغوت إلهاً فلن يختلف عن الطاغوت بشيء إلا في أنه لم يجد في ذاته القدر الكافي ليكون طاغوتاً فأصبح عوناً له.
إللي ربه ربنا
الأديان السماوية لم تدعُ أو تحث على استباحة دماء الآخرين من قتل وتفجير وتخريب وخطف وحرق البشر بدعوى الجهاد وتطبيق شرع الله.
وأما عن الجانب السياسي فبأي حق ومنطق تكون ذا وصاية على العوام، تفرض عليهم ما يحلو لك من إفتاء وتشريعات باسم دين أنت لا تمت له بصلة.
"فالمسميات أكثر مما نتوقع لكن بواطن الأمور من فعل ورد فعل هي البينة الوحيدة والأبدية".
على الرغم من أن هذا الموضوع يفترض به أن يكون من البديهيات لكن سيظل الحديث فيه مستمراً حتى أجل غير مسمى، حتى يكف البعض عن وصايتهم الدينية، وكأنهم ممسكون بمفاتيح الجنة والنار.
وبهذا الشكل لا يختلفون كثيراً عن الطاغوت مع اختلاف المسميات في الغاية فالأول يحلم بدولة الخلافة باسم الدين والإله والثاني بالحكم المطلق باسم الوطنية ويظل الإله المادي هو المبتغى.
وبسبب تقارب الغايات وصراع المصالح المتضاربة، نشب صراع بين الطرفين مخلفين وراءهم الخراب والخسائر المادية والبشرية وبالطبع من يدفع الثمن هم الشعب.
أكاد أجزم أن فض اعتصام "رابعة العدوية" أصبح نقطة فاصلة بين أبناء الوطن الواحد وبعضهم.. بين الحق والباطل.. بين الإيمان بالعقيدة والشك بمضامينها .. بين النور والظلام الدامس. . بين الإنسانية وانعدامها .
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.