قد يجد من يحاول استكشاف العولمة نفسه أمام الاختلاف الكبير الذي تشهده التعاريف باختلاف توجهات وخلفيات كل باحث، فقد تُعتبر آلية لتعزيز التكامل بين مجموعة من المجالات المالية والاقتصادية والثقافية، فيما قد توصف بأنها مُرادف للأمركة دلالةً على نظام القطبية الواحدة الذي يمثل أوج الهيمنة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن قد لا نجد اختلافاً كبيراً حول أنها تسير نحو خلق عالم موحد على مستويات عديدة، فتشبّهها الباحثة الهولندية ساسكيا ساسن بحيوان يصول ويجول بقوة وبسرعة متعاظمة، متجاوزةً حدود الدول ومخترقةً بنياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، مسنودةً باتفاقيات دولية كثيرة كتلك التي تفرض إزالة القيود عن تنقُّل السلع ورؤوس الأموال، إضافة إلى هيكلة اقتصادية وقانونية لتتأقلم الدول- أو تخضع- تدريجياً، بالموازاة مع عولمة أخرى تتخفى أحياناً في مجالات اجتماعية وثقافية بفعل تأثير وسائل عدة كالهجرة، والسينما، والمؤسسات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي.
كيف تتم عولمة العالم؟ وفي أي أفق؟
لا يتحقق انتشار العولمة وترسيخها دائماً بناءً على توجهات داخلية، بل قد يكون نتاجاً لتوجيهات دولية تأخذ منحى الإرغام في بعض المناسبات، خاصة حينما يكون أحد الأطراف دولة تعاني من مشاكل اجتماعية، سياسية أو اقتصادية، فالدول الرأسمالية الكبرى تسعى بشكل دائم إلى ترويج منتجاتها وفرض هيمنتها على باقي الأسواق بأي طريقة ممكنة، إلى جانب ذلك، تعمل مؤسسات دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على تحفيز هذا الانتشار الذي تشهده العولمة بالعديد من الأساليب، كاستخدام القروض ورقة ضغط على الدول لتفرض عليها تبني مبادئ العولمة حتى لو تسبب ذلك في تعميق المشاكل الاجتماعية، ليتشكل بذلك مناخ دولي يجعل العالم كله أشبه بقرية صغيرة من حيث سهولة تنقُّل الأفراد، ورؤوس الأموال والمنتجات الاقتصادية والثقافية.
حرية التنقل بين شعارات العولمة والواقع:
قد تبدو العولمة ظاهرة إيجابية إذا ما تم اعتبارها حاملةً لمبادئ عديدة كصون حقوق الإنسان وتعميم الخدمات وتحقيق حرية التنقل، لكن ما يتم تجاهله أن حرية تنقل الأفراد كنموذج لا تُحقَّق بالشكل الذي يُروَّج له في شعارات المؤسسات والملتقيات الدولية، فالاقتصاديات الكبرى تتبنى بوضوحٍ حرية التنقل حين يتعلق الأمر بالسياح، وهجرة الأدمغة والعمال المتخصصين وباقي الفئات التي تشكل بالنسبة لها مورداً يمكن استغلاله، في حين تجهز الأسلاك الشائكة العنفَ في وجه النازحين والمهاجرين من أبناء الدول الفقيرة الذين يحاولون الهجرة بحثاً عن فرص أفضل بعد أن كانت هذه الدول التي تجهز لأجلهم الشِّباك الشائكة سبباً في استنزاف ثروات أوطانهم وإجهاض محاولات الإصلاح فيها؛ للإبقاء عليها ضعيفة عاجزة عن الإفلات من الهيمنة الخارجية.
العولمة والأوبئة:
في نهاية ديسمبر/كانون الأول سنة 2019، أعلنت الصين رسمياً ظهور فيروس كورونا "كوفيد-19" بمدينة ووهان عاصمة مقاطعة هوبي التي تقع في وسط الصين، فسبب ذلك هلعاً عالمياً سرعان ما تراجع بفعل التقارير والأخبار المطمئنة التي كانت تنشرها السلطات الصينية وعدد من المؤسسات، أبرزها منظمة الصحة العالمية التي أعلنت في تغريدة نشرتها على تويتر بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني 2020، أن لا وجود لأي دليل ملموس على انتقال فيروس كوفيد-19 بين البشر، ثم رفضت يوم 23 يناير/كانون الثاني، إعلان حالة طوارئ عالمية، مما جعل عدد الوفيات والإصابات المسجلة يتضاعف خمس مرات في ظرف خمسة أيام فقط، بسبب قوة انتشار الفيروس، ولم تعلن عن حالة الطوارئ الصحية العامة إلا يوم 30 يناير/كانون الثاني، كما لم تعتبر انتشار الفيروس جائحة إلا في بداية شهر مارس/آذار 2020، رغم أنه حينها كان قد انتشر إلى بلدان كثيرة حول العالم قبل ذلك التاريخ بكثير، مما جعل جهات كثيرة تتهم المنظمة بالتقاعس والفشل في تحذير العالم، مسببةً خسائر بشرية كبيرة ربما كان من الممكن تفادي نسبة كبيرة منها، مما قد يُظهر أن من غير الصائب اعتماد الدول بثقة عالية على تقارير وتوصيات المؤسسات الدولية لتقييم المخاطر وتحديد الإجراءات الأمثل على مستوى العلاقات الخارجية والشؤون الداخلية.
تجمعاتنا التي لم تتوقف عن النمو:
أسس الإنسان منذ فجر التاريخ أشكالاً من الاجتماع البشري انطلاقاً من التجمعات البدائية الأولى مروراً بمراحل عديدة وصولاً إلى الاتحادات الكبرى التي تُلغى فيها الحدود أمام حركة مجتمعات تلك الاتحادات، وتوحَّد فيها القوانين الاقتصادية كالاتحاد الأوروبي رغم ما يواجهه هذا النموذج من تحديات خلال هذه المرحلة، ثم مع تطور التنظيمات الاقتصادية والتكنولوجيا ظهر الحديث عن الشركات متعددة الجنسيات التي ساهمت في تأسيس مدن عالمية، إضافة إلى التطور الهائل الذي شهده قطاع النقل، خاصةً مع بروز النقل الجوي، فأمكن القول إن العالم لم يصبح بصغر القرية، بل كحيٍّ بحكم التطور الكبير الذي شهده، مما زاد العالم صغراً.
ووهان، نموذج عولمة الأزمات:
كثيراً ما تبدو العولمة ظاهرة إيجابية ناتجة عن التطور الهائل الذي عرفته المجتمعات البشرية، لكنها قد تحمل لنا أزمات ربما ستكلفنا الكثير إن لم يكن العالم مستعداً لها، فعلى سبيل المثال لا تقتصر سهولة التنقل على ما يفيد البشر من أفراد ومنتجات اقتصادية… إذ قد تأخذ أبعاداً خطيرة كتسهيل الانتقال للفيروسات المُعدية بسرعة تسبق بمراحل، قدرة الإنسان على فهم آليات انتقالها وكيفية مواجهتها، مما يقف حائلاً أمام اتخاذ قرارات فعالة لإيقاف انتشارها، فلو أن فيروس كورونا ظهر في مناخ سياسي واقتصادي أقل انفتاحاً أو ضمن إحدى المدن الصغيرة لدول العالم الثالث لتلاشت أخباره مبكراً دون أن يُحدث أي ضجة، وفي أسوأ افتراض ربما كان سينتشر بشكل أقلّ، مقارنة بما شهده العالم من انتقال سريع للفيروس بفعل انطلاقه من مدينة عملاقة ذات تأثير دولي كووهان حسب ما يصلنا عبر وسائل الاعلام.
من دروس كورونا:
رغم تعالي الأصوات المتشائمة التي تجد في أوقات الأزمات فرصة لنشر الإشاعة وترهيب الجماعات، تؤكد الأنباء التي تنشرها المؤسسات الإعلامية حول تراجع أعداد الإصابات ونسب الوفيات مع الرفع التدريجي للقيود التي فُرضت على الأنشطة العامة قبل أشهر في بلدان كثيرة، كيف أن ظروف الخوف والإغلاق التي عاشها العالم هذه السنة قد تصير في وقت قريب جزءاً من الماضي، لكن فيروس كورونا درس، على المجتمع الدولي التعلم منه عبر مراجعة خططه وتصوراته المستقبلية، فبالموازاة مع العولمة التي لا يبدو أنها ستتوقف عن التطور تتضح ضرورة التنسيق بين الدول لمراجعة فاعلية عدد من المؤسسات والمنظمات الدولية التي كثيراً ما طُرحت أسئلة كثيرة حول مدى فاعليتها، إضافة إلى صياغة قرارات وخطط لحماية المجتمعات من الآثار السلبية لهذا النموذج العالمي الجديد بدلاً من تركيز كل الموارد المتاحة للاستثمار في الاقتصاد، فقد اتضح للجميع كيف أن المؤسسات الاقتصادية معرَّضة للانهيار أمام أي تهديد إذا لم توازِها قطاعات قوية، لعل أبرزها القطاع الصحي الذي يجب أن يتصف بالجاهزية والكفاءة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.