عندما دخل نابليون إلى مصر، كان المجتمع المصري يعيش في حالة من التقهقر الفكري والتخلف الحضاري وكان مجيء الجيوش الفرنسية إلى مصر أحدث الصدام والصراع بين الرجعية والتقدمية المادية بمثابة صدمة حضارية أحدثتها تلك الجيوش مثل ما حصل أثر سقوط القسطنطينية على يد العثمانيين، فهذه الصدمة كانت بسبب التقنيات المتطورة التي استخدمت آنذاك وقدوم قرابة الـ 120 عالما من كافة الاختصاصات العلمية المادية البحتة الذين جاؤوا مع نابليون بالإضافة إلى القوانين الإدارية التي عرفت بقوانين نابليون رغم أن معظمها مأخوذ من أحكام المذهب المالكي. هذا الغزو شكل صدمة للعالم الاسلامي المتراجع والمتهالك في عصر الرجل المريض الذي كان ينازع من البيرقراطية القاتلة والصوفية المتخاذلة والارساليات الأجنبية التي تزرع الفتن شمالا ويمينًا ولكن ما سبب حصول تلك الصدمة الحضارية؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، وكما أن الأية الأولى التي نزلت في القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي (إقرأ) ولها دلالة علمية تحث على الحداثة المادية والروحية وذلك لأن القراءة تنضج الفكر والوعي التي تؤدي بطبيعة الحال إلى التطور المادي ويُدخل الإنسان أيضاً في حداثة روحية عميقة، فالتجديد هو عملية ضرورية لكل المجتمعات على كافة المستويات. كل مجتمع يحتاج إلى تحديث أنظمته السياسية والاقتصادية والإدارية باعتبار أن الإنسان هو كائن يتطور في بنيته البيولوجيا فيحتاج أيضاً إلى تطوير عقله الذي يعتبر مصنع الأفكار. لست هنا لأبرز أن نابليون هو مجدد عصره إطلاقا لا بل هو رجل استخدم المكر والخديعة حتى أن البعض من الكنيسة الكاثولوكيا شبهته بالمسيح الدجال حتى علماء الشريعة في مصر آنذاك كتبوا عن أفعاله الشنيعة من قتل وتعذيب وعن الفقر الذي تسبّب به ناهيك عن تجربته في عكا. ولكن القضية هي الحداثة العسكرية والإدارية والعلمية التي أحدثتها الثورة الفرنسية قبل عدة سنوات وكانت أول نتائج الثورة في مصر بعد إيطاليا.
قبل مجيء الإسلام كانت الجزيرة العربية تعيش حالة من الجاهلية والطبقية وحالة من الذكورية العنصرية وإلغاء لدور المرأة واعتبارها للمتعة والخدمات فقط ولكن عندما جاء الإسلام جلب معه الحداثة المادية والروحية مجتمعتين على كافة المستويات. حداثة على مستوى الأنسنة في العلاقات الإنسانية والعائلية والزوجية وحتى بين الأعداء. لقد تجلّت حداثة الإسلام في إلغاء الطبقية وإلغاء العبودية. جاءت الحداثة في إعطاء المرأة حقوقها فأصبح لها ذمة مالية وتستطيع أن ترث وأن تورث. حداثة في النظام المالي الجديد من إعطاء للصدقات وفرض للزكاة. حداثة في العلم وكان ذلك جلياً عندما أسر المسلمون عدداً من كفار قريش وعرضوا عليهم مقابل إخلاء السبيل تعليم الناس القراءة فإن الإسلام يعتبر ثورة إنسانية على الطغيان القبلي الذي كان مسيطراً على المشهد في الجزيرة العربية ناهيك عن دفن النساء وهن أحياء والقتال على أسس طائفية والدليل على ذلك القتال الذي دار بين الأوس والخزرج.
فجاءت الحداثة الحضارية التي خرجت من مسجد مصنوع من قش وطين وطرحت فكرة الأمة وألغت أفكار القبلية وأصبح المجتمع متساوياً "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"، هذه الحداثة حوّلت القبائل المتصارعة الى أمة متماسكة حيث دوّنت أول دستور إنساني مدني في تاريخ البشرية "وثيقة المدينة" وهذه الحضارة التي هزمت الفرس والروم ليس بقوتها العسكرية إنما بحداثتها الفكرية والتماسك الجماعي.
إن هذه الحداثة التي إجتاحت الجزيرة كلها أنتجت ثورة على المستوى المادي والروحي ولكن بعد فترة معينة من التراجع في التطور الفكري والتوقف يعني التراجع الحضاري وذلك لأن الأمم في صراع دائم وهذه فطرة البشر عندما بدأ الانحطاط في الدولة العثمانية في عهد الرجل المريض كانت الحداثة انتقلت إلى مكان آخر من العالم أي إلى الغرب وفي أوروبا تحديداً وإلى أقصى الشرق حيث اليابان والتي دخلت في عزلة قرابة المئتين سنة وهذه العزلة هي أساس نهضتها الحضارية وتحولت إلى قوة عالمية فيما بعد وظهر جلياً في الحرب الروسية اليابانية والحرب العالمية الأولى والثانية أما أوروبا فكانت تعيش في الظلمات والجهل في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يسبح في نور من العلوم الإنسانية والبحتة فهذه النهضة والثورة العلمية وخصوصاً في الأندلس التي كانت السبب الرئيسي في نهضة أوروبا وثورتها الصناعية والفكرية.
هذه الحداثة انتقلت من الشرق الإسلامي إلى الغرب الأوروبي فتطورت الأنظمة السياسية والبيروقراطية الإدارية وعلومها التطبيقية وتجارتها ولكن في الوقت ذاته توقفت الحداثة الروحية فقامت أوروبا باستعمار العالم وخصوصاً العالم الثالث من أفريقيا وأميركا اللاتينية وتركة الرجل المريض وأميركا الشمالية قبل استقلال سنة 1776.
في دولنا العربية والشرق الأوسطية حيث الانحطاط الحضاري الكلي نرى الناس يسافرون إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ويتباهون بالتطور الأوروبي فيأتون بالرذيلة والعهر قلة الحياء والأدب واللواط والشذوذ والمساكنة كبداية للحداثة بالمقابل لا يأتون بالعلوم والصواريخ والصناعات الثقيلة والتقنيات والأنظمة الاجتماعية والسياسية المتطورة التي تحتاجها بلادنا فهذه الحداثة الحقيقية التي نفتقر إليها في لبنان أو في بلادنا العربية بالإضافة للحداثة المادية فنحن بحاجة إلى حداثة روحية حقيقية أيضاً وإلى القيم الإنسانية وأنسنة المؤسسات وعدم تحويل البشر إلى روبوتات وآلات فارغة من الروح بهذا الدمج بين العنصرين تحيا أي دولة وأي حضارة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.