ما زال فضول الكثير يدفعهم للسؤال عن يوميات الأسير الرمضانية، فقد حُق لكل من عرف أثر هذا الشهر وبركة أيامه وبهجة أوقاته التي يزرعها في جموع الصائمين أن يتعرف على تجليات هذا الشهر في نفوس الأسرى.
أحوالهم في الصيام، طقوسهم عند الإفطار، احتفاؤهم بالسحور، ودفء صلاة التراويح.
أفراحهم والأحزان، أشواقهم لمائدة الأهل بلوعةٍ وحنين، والصفاء الإيماني وروحانية الشعائر والعبادات، والفردانية التي يفرضها الشهر المبارك على ثلاثين يوماً تتوالى كل عامٍ من الأعوام المتراكمة على الكواهل التي أضناها غياب السنين.
وقبل الحديث عن شهر رمضان لا بد من ذكر أهمية أي تغيير قد يُصاحب يوم الأسير.
الرتابة أهم ما يميز الأيام، والروتين نسخة يستولد منها عدد لا يُحصى من النسخ المتطابقة التي تستوطن السجن ونفوس ساكنيه.
التكرار يتواطأ مع الساعات في انسجام غريب، بحيث لا تكادُ تلحظ أي خروجٍ عن النص الذي أقسمت على تطبيقه إحداثيات المكان التي تتقاطع مع تصادم الزمان.
اللهم إلا من هوامش قد تفرضها بعض الاحتكاكات اليومية مع إدارة السجن، عند اجتياحٍ لوحدات التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، أو إغلاق للقسم لدواعٍ أمنية، يكون هذا الكسر المؤقت للروتين جرعة مخففة تُعطاها لئلا تنسى أنه ليس في مقدورك أن ترسم مسار يومك، فهناك من يرسمه لك ويكفيك هذا العناء.
أما الجرعة المُركّزة التي بقي أثرها لأيام أو أسابيع، وربما مدى الحياة، فتكون أثناء صفعةٍ تترك بصماتها على جسدك والأعضاء، وقد تستخدم أمامها بعض أسنانك، فتقرر الاستغناء عن جسد بات عاجزاً عن حمايتها.
وبما أن رمضان هو شهر متفرد بذاته، متعدد بهِباته، فهو يأتي نجدةً للأسير من سطوةِ الرتابة وملل التكرار، وليس بفرحة الإفطار وغبطة السحور فحسب!
بل بالطاقة الروحية التي يبعثها الصيام، فتعلوا بها الهمم وتستوثق بها الأفئدة وتتزود عليها عزائم النفوس، فتنبت في أفيائها زهور السكينة وزنبقات الأمل، التي تغتال زمام اليأس بأنوار الخيالات الحالمة برمضانات قادمة نشرعُ لها أفئدتنا لنستقبلها في بيوتنا بين عوائلنا حباً واشتياقاً.
جميل هو رمضان، وبهية هي إشراقاته التي يتركها أينما حَلّ، تسبقنا إليه ذكريات أيام خلت من عُمرٍ لم تثقله حينها السلاسل والقيود، ولم تتسرب إلى تفاصيله مرارات القهر الممزوجة بأقدار الحرمان.
تتحضر النفوس لِلُقيا الضيف الكريم، بإكرام وفادته، إيماناً بجزيل الأجر، وعظيم المثوبة، وطمعاً في الفوز بثلاثية العطايا، أول الرحمة، وأوسط المغفرة، وختام العتق من النار، وليس من أحد له ترف الاستغناء عنها إلا جاهل أو جاحد.
تختلف تفاصيل يوميات الأسرى في رمضان تبعاً لضيق الغرف وتباينها، ولجغرافيا المكان، وأمور أخرى، لكنها تتفق في حميمية المشاعر، وتدفق خيال الذكريات والأماني التي تصدح بها الدعوات المبللة بدمع الرجاء، للخروج من هذه المقاهر، واجتماع الشمل بعد جرح الغياب.
لن أتحدث عن الطعام وإعداده، والاجتهاد في الخروج عن المألوف قدر المستطاع، إضفاءً لأجواء رمضان، فهو لا أراه لازماً أمام أهم لازمة من لوازم رمضان التي نفتقدها، وهي "لمة العائلة".
وليسمح لي القارئ بالقول إن كل طعام، وإن ذم، وأي عوض، لا يعوض حسرة البعد عن امتدادك الوجداني لمن تُحب، ولا يحول دون عواطف الأحاسيس التي تهبّ علينا ساعة الإفطار، ونحن نُحدقُ في مرايا الذكريات التي لا يطيب لها الاجتماع إلا ها هنا.
وتتقاقز أمامنا مشاهد رمضاناتنا الهانئة في نعيم القرب ولذائذ الوصال، وتحضننا الصور التي ترسم آلية لحظات الإفطار لدى عوائلنا المُحدقة بمقاعدنا الفارغة المُلتفة حول الموائد، التي ظللها الحزن كما ظلل كل ما فينا، وكأني بالسجن وقد حال دون اجتماعنا بمن نُحب.
جاء رمضان ليربطنا بهم وإنْ بخيطٍ من الأسى، طَرَفه معقود في قلوبنا وطرفه الآخر ممتد بحسرته فيهم، وشبح الغياب الأبدي حاضر ليلوّنه بالقتامة.
القارئ الكريم..
أعلم أني لم أُشبع فضولك في تفاصيل ربما أردتها في ثنايا السطور، وأتيتك بما لم ترتجيه من استعراض لمأساوية الحال، وليس بالمعنى الحرفي.
لكن ماذا أقول وكل قولٍ سيبقى عاجزاً، وكل كلمة ستظل أكثر من أن تطول حقيقة المشاعر التي تختلج بنفس الأسير في رمضان، فهي الأهم أمام أثقال ثانوية تتغير تبعاً للظروف، والثابت فيها ما يتجلى عند كل لقاء بهذا الشهر الكريم، وهو أنه إضافة لكونه شهر الرحمة والغفران فهو أيضاً شهر الحسرة والأحزان.
أخيراً، يجيء رمضان بما يجيء به من كسرٍ للروتين وتهذيب للقلوب وتطبيب للأرواح، لكنه حتماً يجيء في غربة السنين بفيوضٍ من الحنين، شمعة الأمل مُفتقَدة رغم الخفوت، نحرسها من هواجس اليأس التي تعصف بها من كل الجهات.
ويقيني الواثق بأن الفجر لا بد آت، وكل ليل وإن طال فمصير الصبح أن يصحو، وينثر في المدى زهر الأمنيات.
رمضانكم مبارك.. وكل عام وأنتم من الله أقرب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.