500 مليون كيلومتر مربع هي مساحة كوكب الأرض بكل ما عليه من حياة وموت، بحار وجبال وأنهار، سماء وصحراء، حياة فسيحة وأرض بامتداد البصر لا تكاد تنتهي، إلا لقصر النظر وقلة حيلة الناظر، بالطبع تلك صورة جميلة للكوكب الأزرق.
أجمل من خلفية حاسبك الآلي القديم، وبالطبع أفضل من صور محمد صلاح في جزر المالديف، صديقي دع عنك كل هذه الصور الخيالية واقترب معي للواقع قليلاً، تخيل أن يكون قدرك من الحياة، أن تقضي ساعة أو سنة من عمرك في غرفة صغيرة مساحتها 3 أمتار في 3 أمتار؟
رحلة سريعة داخل غرفة حجز بأحد أقسام الشرطة
أمر سيئ بالطبع، أن تقبع في تلك الغرفة الصغيرة، التي لا تتعدى مساحتها ٩ أمتار، لكن ماذا لو كان بصحبتك معتقلٌ آخر، بل ثلاثة، أو خمسة، تشعر بالضيق الآن؟ أخشى أن تختنق لو أخبرتك أنهم 10 معتقلين في غرفة يكاد النائم بها تلمس قدمه أحد حوائطها بينما يده تلمس الحائط المقابل له.
أعلمُ أن 10 معتقلين رقم كبير على تلك المعطيات، لكن آسف كانوا 70 محتجزاً، أغلبهم جنائيون، وسجائرهم لا تنطفئ إلا وقد أُشعلت غيرها، الأمر واضح لك الآن غرفة أكبر من مطبخ شقتك قليلاً، بها 70 إنساناً من كل الأعمار والأحوال المختلفة، لا يجمعهم سوى تلك المساحة الصغيرة من الكوكب الفسيح، في أحد أركان الغرفة حمام صغير، سأخبرك عنه لاحقاً، حتى لا تتحول القصة إلى خيال علمي.
تتكون الغرفة مثل غيرها من ٤ حوائط وسقف وأرضية، مع بعض الفروق البسيطة، فالأكياس البلاستيكية تملأ تلك الحوائط الأربعة، حيث تمثل للمحتجزين خزائن الملابس والمقتنيات القليلة من سجائر أو بعض المأكولات الجافة، وربما مصاحف أو كتب صغيرة، بينما السقف تكاد تصل إليه بيدك إن كنت ممن تجاوزوا 190 سم.
يتبقى الركن الأخير، أرضية الغرفة، ألا تتذكر السبعين محتجزاً الذين حدثتكَ عنهم؟ يفترشون كامل المساحة، بحيث لا تستطيع أن ترى منها مقدار شبر.
شِبر وقبضة.. كيف الحياة في مستنقع مميت؟
لا تحتاج لعالم في الرياضيات ولا طالب في الثانوية العامة قسم علمي رياضة، ليخبرك بحقيقة الأمر، لدينا 70 إنساناً في مساحة لا تكفي لأكثر من 5 أشخاص فقط في الظروف الطارئة، كيف يستطيع قاطنو تلك المساحة أن يتعايشوا معاً؟ نبدأ بالنوم، المتعارف عليه داخل مجتمع السجون.. "النوم صديق المسجون"، "عشان حبسته تعدي بسرعة"، كما يقولون، في هذه الحالة الأمر معقد كثيراً، حيث تغيب كل الوحدات القياسية التي عرفتها البشرية، وتحضر وحدات القياس الخاصة بأقسام وسجون مصر.
وحدتا الشبر والقبضة هما السبيل أمامك لانتزاع نصيبك في تلك المعركة الخاسرة، وبناء عليه.. ربما تحصل على 4 ساعات من النوم غير الهادئ، و10 ساعات جالساً نصف جلسة، بينما تقف ساعات اليوم الباقية، وتلك قسمة العدل بالمناسبة، نظراً للعدد الكبير، وعلى المتضرر السكوت "عشان عايزين ننام ساعتين يا زمالة".
بين أقسام الشرطة والسجون.. "صوابعك مش زي بعضها"
يعتقد الكثير ممن حالفهم الحظ بعدم تجربة تلك الظروف، أن الأمور تكاد تكون واحدة بين الاحتجاز في أقسام الشرطة أو الاعتقال والحبس الاحتياطي في السجون العمومية، وأنه في النهاية حبس وظلم، لكن في الواقع هناك الكثير من الاختلاف.. بداية بشكل الزنزانة ونهاية بالحياة داخلها، مروراً بالزيارة والنيابة وغيرها.
الفارق الأهم هو أن السجون العمومية أنشئت خصيصاً من أجل استقبال السجناء، لذلك مساحتها في العموم كبيرة، ويتوفر بها مكان للزيارة والتريض في أغلب السجون وربما عيادة أو مستشفى، بغض النظر عن جودتها وفاعليتها وبغض النظر عن تعنت إدارة تلك السجون في الاستجابة لطلبات المعتقلين من أجل العلاج، بينما في أقسام الشرطة لا علاج ولا دواء ولا طبيب، الزيارة أسبوعية لكنها عبارة عن 5 دقائق من "نضارة" الحجز، وهي نافذة صغيرة في باب الحجز، يقف المحتجز من داخل الزنزانة بينما يقف ذووه خارجها، في مشهد يعود للقرون الوسطى.
العرض على النيابة في السجون يكون من خلال عربة الترحيلات الضخمة سيئة السمعة، بينما في الأقسام يحدث أن يجمع أحد أمناء الشرطة من كل محتجز 10 جنيهات لاستئجار ميكروباص للذهاب إلى النيابة، والعودة منها.
الخطة السحرية للتعايش داخل حجز أقسام الشرطة
"عمره ما دخل قسم قبل كده" تلك هي الجملة الأشهر في التعبير عن صلاح الحال، لكن في مصر الحالية ربما تحتجز في أحد أقسام الشرطة لأسباب عدة، وفي حالة الاعتقال السياسي، يعتبر حجز القسم هو بداية ونهاية التجربة لكل معتقل، ففي أغلب الأحوال عند اعتقاله يصل إلى أقرب قسم شرطة، إن كان حظه جميلاً ولم يذهب إلى أحد مكاتب الأمن الوطني، وعند حصوله على إخلاء سبيل أو إفراج أو براءة، يتم ترحيله من السجن العمومي إلى أقرب قسم لمحل سكنه، لإنهاء الإجراءات الروتينية العقيمة.
ربما يمكث المعتقل في قسم الشرطة لعدة أيام، فكيف له أن يتعايش مع كل هذه الظروف الغريبة، بداية ينبغي أن يدرك أن تلك التجربة ستنتهي لا محالة طالت أو قصرت، ومن ثمَّ فمن الأفضل أن يتعاون مع زملاء الحجز.
الأمثلة كثيرة على روح التعاون داخل الحجز، ومنها كيفية تناوب المحتجزين على النوم، وكذلك كيفية استخدامهم لدورة المياه الصغيرة، فيوجد بها كيس يجمعون به القمامة، يجب على من في داخلها أن يتعاون مع زملائه في توصيل القمامة إلى دورة المياه، حتى وإن كان في أثناء قضاء حاجته، وربما يطلب منه أحدهم أن يغسل له بعض الفاكهة، في هذه الظروف.
أجواء شهر رمضان بصحبة 70 محتجزاً في قبو أو قبر
يغني الفنان حسين الجسمي "رمضان في مصر حاجة تانية والسر في التفاصيل"، في الحجز بأقسام الشرطة رمضان "حاجة تالتة"، تختلف عن كل ما يُعرف، فمما يخفى عليك معرفته أن أغلب المحتجزين في أٌقسام الشرطة من الجنائيين، وأكثرهم يفطر في رمضان، وسُحب الدخان الناتجة عن تدخين السجائر العادية والمحشوة لا تتوقف طوال اليوم، فبدلاً من روحانيات رمضان، ستعيش حالة مختلفة تماماً.
لا توجد مساحة للنوم داخل تلك الغرفة، وبالتأكيد لا توجد فرصة للصلاة التي نعرفها جميعاً.
في أقسام الشرطة، وفي ظل تلك الظروف الغريبة لن تستطيع أن تسجد لله الواحد القهار، وستحتاج أن تحجز دوراً في دورة المياه من أجل الوضوء.
ونصيحة أخيرة، حاول ألا تقضي شهر رمضان في أحد أقسام الشرطة، وحاول أيضاً ألا تجرب تلك الظروف أبداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.