بمحاكاته للواقع الجزائري، وما قدّم من إيحاءات سيّاسية واجتماعية بنكهة ساخرة، شكّلت متنفّساً لمجتمع ضاق ذرعاً بالرداءة والإهمال السياسي، استطاع مسلسل "عاشور العاشر" الدرامي، ذو الحسّ الفكاهي، أن يلاقي استحسان العائلة الجزائريّة، ويتميّز من بين الأعمال الفنّية، منذ بثّ موسمه الأول سنة 2015.
"عاشور العاشر"، هو اسم لسلطان يتربّع على عرش مملكة وافرة الموارد، ضعيفة الوجود، لما أصابها من فساد ومحسوبية. يعيش السلطان وحاشيته في مملكته (العاشورية)، حياة البذخ والترف، على أعقاب ما تجنيه المملكة من أموال طائلة للزيوت (البترول)، ممّا يدفعه إلى ممارسة كلّ أنواع الديكتاتورية والاحتكار على شعبه الذي يتخبّط وسط أزمات اقتصادية واجتماعية معقّدة، خوفاً من زوال سلطانه.
بين الفينة والأخرى، تُحدث قرارات السلطان الاعتباطيّة شرارات لاحتجاجات وسط المجتمع العاشوري، يتمّ إخمادها بتوزيع بعض الزيوت على سكّان المملكة، أو الاستجابة على مضض، لبعض المطالب الرمزيّة، دون التمحيص في عمق الأزمات.
في موسمه الثالث، الذي يبثّ خلال شهر رمضان، بقي جعفر قاسم المخرج وفيّاً لتطلّعات المشاهد، يقارب الواقع بكلّ ما يحمل من تناقضات، يواكب التغيير المنشود، ويتطلّع مثل الشعب الجزائري لبزوغ شمس الجزائر الجديدة.
فلم تخلُ مشاهد المسلسل في حلقاته الأولى من لمسات فنّية ذات دلالات سياسية، رأى فيها البعض إسقاطات لتغيير واجهة النظام، من شخص الرئيس الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة، إلى شخص الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون، مثلما أشار إلى ذلك الصحفي إبراهيم قرعلي، في مقال له نُشر في موقع زاد دي زاد. ذلك أنّ بطل المسلسل السابق "صالح أقروت" الذي لعب دور السلطان "عاشور" في الموسمين الأول والثاني، تمّ استبداله من قبل المخرج بقالب ذكيّ، بعد إصابته برمية سهم أفسدت ملامح وجهه، بممثل آخر "حكيم زلّوم"، الذي ظهر بوجه جديد بعد عملية تجميل، وهو ينتهج نفس النّهج في تسيير المملكة، دون تغيير ملموس.
يضاف إلى ذلك إشكالية التكتّم على الحالة الصحيّة للرؤساء في الجزائر، الّتي تمّ توظيفها ببراعة، بعد هلع السكّان عند إصابة وغياب سلطانهم، دون أن يكون لهم الحقّ في فهم ما يجري داخل القصر، أو حتّى الاطّلاع على وضعه الصحي، الحالة التي تتقارب مع ما عرفه الجزائريون عند مرض رئيسهم مؤخّراً.
قد تبدو هذه التفاصيل صغيرة، لكنّها بالغة الأهميّة، لإحالتنا إلى واقع مرير، أضحت تتخبّط فيه الجزائر بين القديم المتجدّد.
من زاوية أخرى، يحاول المسلسل في جزئه الثالث، إعطاء صورة مغايرة للمملكة، بعد تهاوي شعبيّة السلطان، واستبدال حاشيته، ليظهر فجأة برلمان شرعيّ يترصّد الفساد، نصّ للنظام جديد يحدّ من حكم السلطان وتأثير عائلته، وصحافة مستقلّة تمارس الرّقابة وتنير الرأي العام، كما لو أنّها صورة لامعة لبلد جديد، يداعب بها المخرج مخيّلة الجزائري، الذي يحلم بدولة معاصرة منذ أمد بعيد.
أمّا المثير في هذا العمل، فهو مشاركة الممثّلة المغربية "نادية كوندا"، المعروفة بحسّها الفنّي العالي، في دور بطوليّ، يُعدّ سابقة للدراما الكوميديّة الجزائرية، ومعه الكثير من علامات الاستفهام.
تتقمّص "نادية كوندا" دور الخادمة "مانينة"، الدخيلة على المملكة، ابنة الوزير قنديل، والمستشار الشخصي للسلطان، الذي رُمي به في السجن بعد ثبوت فساده ومحاولة الانقلاب على السلطان. تحاول هذه الأخيرة، القادمة من بعيد، إنقاذ والدها الذي تبيّن أنّه ليس عاشورياً خالص الانتماء، عبر زرع حالة من فوضى وسط المملكة، يستفيد منها الوزير، الذي سبق أن طلب مساعدة أطراف أجنبية، ليستعيد نفوذه وسلطته المفقودة.
تساؤلات كثيرة تُطرح حول اختيار ممثلة تحمل جنسيّة مغربية لهذا الدور على وجه التحديد، رغم أنّ الكثير من الممثّلات الجزائريّات يستطعن تقمّص الدور بكلّ أريحيّة، فهل جنح المخرج إلى هذه الوسيلة ليغازل بعض الأطراف السياسية، متبنّياً طرح النظام الجزائري تجاه نظيره المغربي، كما ذهب إلى ذلك الناقد السينمائي محمد علال، ويرجّح بذلك فرضيّة قائمة، تتّهم المغرب الجار بمحاولة زرع حالة من عدم الاستقرار في الجزائر، أمّ على نقيض ذلك، هي مجرد إيماءة مفادها طيّ صفحة الخلافات، وإعادة إحياء لبوادر مغرب كبير، شكّل حلم الأجداد، لاسيما أن الطرف التونسي ممثّل في دور طبّاخة السلطان المطيعة "نورية" الذي تجسّده الممثّلة التونسية "كوثر الباردي".
كغيره من الفنون الأخرى، يبقى الفنّ الدرامي الكوميدي حمّال أوجه، والحلقات المتبقّية وحدها هي التي ستميط اللّثام عن التوجهات السياسية التي يتبنّاها المسلسل، وإلى ما يصبو إليه المخرج "جعفر قاسم"، كما ستبقى الأيام وحدها كفيلة بكشف ما تخفيه الأقدار للجزائر، إمّا جديدة متقدّمة، أو قديمة متجدّدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.