في زمن يُسلب فيه اليمنيون حقوقهم الطبيعية، كالحق في الحياة بسبب الحرب، ينشر يمني عشرات التدوينات التي يظهر من خلالها تركيزه على حرية الرأي في بلد آخر، وفي سوريا التي أنهكتها الحرب، يكرّس إعلامي جل اهتمامه بوضعية أقلية الروهينغا في ميانمار، متجاهلاً الموت الذي يسقط على رأسه أو رأس أحد القريبين منه في أي لحظة. تتعدد الحالات التي نشهد فيها أن أفراداً يشكلون نسبة مهمة من المجتمع قد تصل أحياناً إلى الأغلبية، يغضون أنظارهم عن قضايا كبرى تخص مجتمعهم، ليهتموا بقضايا مجتمعات أخرى تبعدهم بمئات إلى آلاف الكيلومترات على مقياس الجغرافيا، وفي القدرة على التأثير والتأثر على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فكيف يتجه اهتمام الناس إلى قضايا بعيدة عنهم؟
يرتبط هذا الموضوع ارتباطاً وثيقاً بالعولمة، فهي حسب عدد كبير من الباحثين تسير نحو خلق رأي عام عالمي موحد، عبر تجاوزها الحدود السياسية والاختلافات الثقافية لبلوغ العقل والتأثير عليه بوسائل متعددة يعتبر التلفاز أبرزها، رغم ظهور وسائل أخرى في وقتنا الحالي، كشبكات التواصل الاجتماعي، وانطلاقاً من ذلك تتداعى على مائدة الإعلام الدولي العديد من القضايا التي تهم كل منها مؤسسة إعلامية ما أو جهة ممولة تحاول فرض نفسها أمام تجليات الواقع وتحدياته أو الهيمنة على الساحة الدولية عبر امتلاك قوة إعلامية كبرى.
فبين القضايا التي تركز عليها وسائل الإعلام عبر تخصيص تغطية أكبر لها أو تنويع المواد الإخبارية المتعلقة وبين القضايا التي تحاول وسائل إعلام أخرى التعتيم عليها أو تضليل الرأي العام في تغطيتها، تضيع قضايا أخرى غالباً ما تكون مهمة ومؤثرة في المجتمع، وقابلة للتأثر والحل إن لقيت اهتماماً يناسب حجمها، فهل هذا بريء، أم أنه نتاج رغبات جهات أو مؤسسات ما، تبتغي التعتيم عن بعض القضايا أو إبعادها عن الواجهة؟
شهدت مدينة الحسيمة، الواقعة في منطقة الريف شمال المغرب حراكاً احتجاجياً عقب مقتل الشاب محسن فكري، يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول 2016، طحناً في حافلة للنفايات بعد صعوده إليها مع رفاقه، كخطوة احتجاجية على مصادرة السلطات المحلية سلعته، فجاء الحراك الاحتجاجي داعياً لمحاسبة المسؤولين عن مقتله، وحاملاً عدة مطالب اقتصادية واجتماعية، على رأسها بناء جامعة ومستشفى، وتوفير فرص عمل لأبناء الإقليم الذي يسجل معدلات بطالة قياسية، هنا قد يختلف موقف القارئ بين التأييد والمعارضة، لكن هذا موضوع آخر، فالإشكالية هنا تكمن في تعاطي الإعلام العمومي مع هذا الحراك، إذ بدأ بتعاطٍ محتشم لا يتجاوز تغطية قصيرة في مقابل التركيز على مواضيع أخرى لا تعتبر ذات أهمية أمام حالة الاحتقان الاجتماعي التي يعيشها الإقليم.
ثم استمر على نفس النهج لأشهر، إلى أن بدأ عملية تضليل واضحة للمشاهد كما حدث حين بث صوراً قديمة لشغب جماهيري على أنها من احتجاجات الحراك بالحسيمة، وهكذا ضلّل الإعلام العمومي على مدى أشهر نسبة كبيرة من الناس في مدن أخرى من البلاد، وشوّه صورة الحراك الاحتجاجي، مبرراً تبني السلطة للمقاربة الأمنية في تعاملها مع المحتجين ومطالبهم، وهذا مجرد مثال بسيط من عدة أمثلة لقضايا لم تلقَ الاهتمام الذي تستحقه بين صخب وفوضوية الإعلام، فنفس الأمر حدث ومازال يحدث في مناطق كثيرة من العالم، وعلى وجه الخصوص دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، رغم اختلاف التفاصيل والمسميات، فما مصير القضايا الكبرى للمجتمعات أمام هذه الفوضى؟
بينما الإعلام يوجّه الأفراد نحو تركيز نضالهم لأجل قدرة أنثى مدللة في مجتمع ما على إظهار ساقيها، وبينما يشاركنا البعض على هذه المساحة الافتراضية كرههم للفنون، أو رفضهم لهؤلاء الذين لا يصلون صلاتهم، أو لا يؤمنون بنفس إيمانهم، وبينما قد تكون القضية الكبرى لبعضنا أن يزيل الناس شواربهم ويتركوا لحاهم، وفي الوقت الذي تغضب نسبة من الناس لأجل الدلافين والتحولات المناخية والصراعات الطائفية في الجهة الأخرى من الكوكب، يموت آلاف الأطفال جوعاً وبرداً على قمم الجبال وبيننا أحياناً، تموت النساء أمام بوابات العار التي تفصل بين دولنا المتخلفة وبين دول أفضل.
بينما من في شمال إفريقيا مشغول بقضايا الشرق الأوسط، ومن في الشرق الأوسط مشغول بقضايا غرب أوروبا، ينتحر الشباب في قلب البحر هرباً من الواقع الذي نسيناه، وتزداد معدلات الفقر المالي والثقافي بينما بعضنا مشغولون بالأعضاء التناسلية للآخرين، وكيفية استعمالهم لها، منددين أو مشجعين حسب السياق والمرجعية، حسب التنشئة الاجتماعية التي علمت أغلبنا اعتناق القشور.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.