وثقت منظمة نحن نسجل WE RECORD قيام قطاع مصلحة السجون بوزارة الداخلية المصرية بإعدام 17 سجيناً مصرياً، إثر الحكم عليهم بالإعدام ضمن قضية اقتحام قسم كرداسة يوم 14 أغسطس/آب من عام 2013، تزامن حينها -أي وقت- فض قوات الأمن المصرية اعتصام رابعة والنهضة، جاء إعدام السجناء اليوم مع استمرار عرض مسلسل الاختيار 2، الذي ضمّنت الحلقة الخامسة له عرض مشاهد اقتحام أهالي كرداسة المنتمين إلى الإخوان المسلمين أو بشكلٍ أشمل أي رافضي فضّ الاعتصام قسم كرداسة وقتل وسحل المتواجدين فيه من ضباط وأمناء للشرطة وعلى رأسهم مأمور القسم. من هنا بدأ الجدل بين متابعي المشهد المصري ليتساءلوا هل يختار النظام المصري التوقيت الملائم للقيام بإجراءاته بحقّ معارضيه؟ وما الهدف من ذلك؟ وهل تساعد الدراما بشكلٍ حقيقي في إعادة سرد التاريخ للناس من وجهة نظر صانعيه؟
إعادة سرد التاريخ
في رمضان من العام الماضي، عُرض مسلسل الاختيار الجزء الأول، والذي سرد فيه مواجهات الجيش والشرطة المصرية لمجموعات التمرّد الإسلامي المسلح، كتنظيم أنصار بيت المقدس قبل أن يُبايع ولاية سيناء (داعش)، وأجنحة أُخرى تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، دار المسلسل حول ضابط الجيش المتقاعد هشام عشماوي الذي انتمى إلى تلك المجموعات، وبدأ من خلالها في تنفيذ عمليات تستهدف أجهزة الأمن المصرية، بالتوازي مع سرد بطولات ضابط الجيش أحمد منسي الذي قُتل في إحدى المواجهات عند كمين البرث في رفح شمال سيناء بواسطة مجموعة موالية لتنظيم الدولة الإسلامية.
في الواقع، كانت أجهزة الأمن الليبية قبضت على الضابط هشام عشماوي وسلّمته إلى نظيرتها المصرية، لينفذ فيه حكم بالإعدام على إثر عدّة قضايا يوم 4 مارس/آذار 2020، أي قبل عرض المسلسل في أول أيام رمضان 23 أبريل/نيسان 2020. لكن، بعد عرض المسلسل والقبض على عشماوي ومن ثّم إعدامه في المشهد الدرامي، شارك الفنان أحمد العوضي وهو من قام بدور عشماوي في المسلسل مَقطع فيديو، للحظة إعدام عشماوي في الحقيقة، ليشاهد الجمهور بشكلٍ متواز لحظتي إعدام؛ واحدة درامية والأُخرى واقعية، ما استدعى هنا علاقة السلطة بجسد مواطنيها/معارضيها وحقّها في قتلهم أو عرض أجسادهم للرأي العامة كنوعٍ من إلباس الناس عقلية المزج بين القصة الدرامية والواقع، بالإضافة إلى استعراض القوة والانتقام.
هذا ما حدث تماماً، عند إقبال السلطة على إعدام المتهمين في قضية اقتحام كرداسة، بعد عرض المشهد درامياً، في محاولة منها لربط الدراما بالوقائع بالحدث، وألّا تكون المشاهد الدرامية لحظات عابرة في الذاكرة الوجدانية للمشاهدين، بل هي واقع تاريخي يرويه صانع تلك المشاهد.
ما يأخذنا إلى دور الفن في إعادة سرد التاريخ للجماهير، ليست الجماهير التي لم تحضر ذلك السرد في الواقع، بل الجماهير التي حضرته، لكنها غير مهتمة بتأريخه واتخاذ موقف بشأنه، سواء بالقبول أو الرفض أو المقاومة، لأن التاريخ يُنسى، لذلك يسعى النظام المصري لإحيائه مرّة أُخرى عن طريق الدراما الرمضانية التي يتابعها ملايين المصريين، الحاضرين وغير الحاضرين للسرد التاريخي الواقعي، لكي يصل إلى منفعة بعينها حدّ وصف الفيلسوف الألماني فريدريك شيلر، الذي دعا إلى استخدام الفن للوصول إلى غايات نفعية لمُنتجيه، إبان الثورة الفرنسية عام 1789.
الفن الذي يرعاه النظام المصري في الوقت الحالي ينجح في إعادة حالة الاستقطاب مرّة أُخرى بعد أن كانت أوشكت على الانتهاء بشكلٍ كبير بين نسيج الأسرة/المجتمع المصري بشأن الانقلاب العسكري/فض الاعتصام، والأحداث المتتالية الجدلية لبيان 3 يوليو/تموز 2013، تعاد تلك المرّة بين أجيال حضرت وغائبة عن الأحداث السياسية في شكل جدالات مستمرة على مواقع التواصل الاجتماعي بين الروّاد، وداخل الأسرة والعائلة الواحدة نظراً للتقييم الخلافي لعنف أو شرعية كل من النظام ومعارضيه.
أيضاً تساعد الدراما المتمثلة في مسلسل الاختيار في رفع تكلفة وعناء البحث لدى الأجيال التي لم تحضر أو تابعت الأحداث بشكل جيد ودقيق، وذلك عن طريق تقديم وجبة تاريخية ملفوفة في سياقها الدرامي، يُجسّدها فنانو مصر اللامعون على مرّ سنوات كثيرة فائتة. فتؤخذ الرواية الدرامية بوجهة النظر المؤطّرة بشكلٍ سابق لها من بعض الجماهير دون الرجوع إلى مصداقية الحدث من عدمه، مثالاً على ذلك، رواية الحاجة سامية شنن التي جاءت في المسلسل وسقت إحدى رجال قسم شرطة كرداسة عند اقتحامه مياه نارٍ لتقضي عليه، عند التحقق من تلك الرواية، تجد أن محاضر الشرطة لم تذكر تلك الواقعة، بل حرصت المحكمة على نفي تلك الشائعة، وأقرت بتهم أُخرى للمتهمين إجمالاً ومن ضمنهم السيدة سامية شنن ضمن حيثيات الحكم المنشورة على جريدة الشروق المصرية.
يستفيد النظام المصري من إنتاج وإعادة تصوير الأحداث التاريخية في الشكل الدرامي والسينمائي، سواء كانت تلك الأحداث حقيقة أم لم تكن، بل تلك المشاهد عندما تُبث في الوجدان الجمعي للكثير من الجماهير تتماهى مع حالة الاستثناء بوصف الفيلسوف الألماني كارل شميث، التي تعيشها البلاد [1]، أي مزيد من إجراءات الاستثناء المتمثلة في استمرار قانون الطوارئ، واعتقال الناشطين، إغلاق وتضييق على الهوامش المدنية في تجمعاتها الحقوقية والاجتماعية. حالة يفرضها النظام على المجتمع، ليريه كيف تعيش مصر وسط الإرهاب وأهل الشرِّ ولا سبيل لمواجهة ذلك إلّا باستمرار وبقاء النظام.
هوامش:
1- حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث، وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي. وقد نُوقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ"الإنسان الحرام". انظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.