أغلب الظن أنك لم تسمع من قبل بـ"إليانور" حاكمة آكيتاين، لكن بالطبع سمعت عن ابنها، أشهر ملوك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، بالرغم من أن سمعته تسبقها حالياً، فإنها كانت بالفعل من أهم وأغنى نساء العصور الوسطى، ومن أقوى النساء في التاريخ، قبل أن تلد ريتشارد أو حتى تتزوج من والده، فهي بالفعل المرأة التي هزت عروش أوروبا، ووضعت بصمتها على الحياة السياسية بأوروبا خلال حياتها الطويلة التي امتدت لـ82 عاماً، تزوجت فيها ملكين وأنجبت ثلاثة ملوك، وساهمت في فشل حملة صليبية، وشجعت حرباً أهلية، وأول امرأة تحكم مقاطعة كبيرة وحدها، وإحدى القليلات -ربما الوحيدة- من المتعلمات والمثقفات في القرن الـ12، وهي أول وآخر امرأة تكون ملكة لفرنسا وإنجلترا، حتى أنها عاشت أطول من زوجيها و9 من أبنائها.
عاشت إليانور خلال "العصور الوسطى"، وهي الفترة ما بين سقوط الإمبراطورية الرومانية في 476، وبداية عصر النهضة الأوروبية نحو عام 1400، كان يعتبرها الكثيرون امرأة سابقة لعصرها، وقد أنجزت أشياء لم تجرؤ النساء على تخيلها في تلك الفترة.
في بلاط الحب والشعر
وُلدت إليانور في عائلة غنية مولعة بالفن والغناء، وأهمهم جدها الدوق "ويليام التاسع"، الذي كان مؤلفاً للأغاني باللغة الفرنسية، عكس اللاتيني الشائع وقتها، ويعد من أشهر المغنين والشعراء في العصور الوسطى، وأهمهم منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، وعُرف بلاطه أو مجلسه بمجلس الحب والشعر، وكان يعتبر مركز الثقافة والفنون في أوروبا، وقاد حياة مترفة لم يبخل فيها عن نفسه بأي شيء، وعُرف بمغامراته كزير نساء، وكثرت الأقاويل والإشاعات عليه، وتزوج مرتين وانتهى الزواج بالطلاق، لعدم قدرتهما على تحمل خياناته المتكررة، حتى كان في صدام متكرر مع الكنيسة، حتى تقدمه في السن، وإحساسه بالتقصير دينياً، فقرر الانضمام إلى الجيوش الصليبية في 1101 تحت ضغط البابا، ثم تم نبذه من الكنيسة مرتين، فقام في واقعة شهيرة باقتحام إحدى الكنائس، وهدد بقتل الأسقف إذا لم يعفه من ذنبه أمام الرب.
وُلدت إليانور في 1122 أو 1124، وبعدها بأعوام قليلة أصبح لها شقيق وشقيقة، وتم تأمين مستقبل المقاطعة بنجاح، لكن شقيقها الأصغر توفي بعمر الرابعة ثم والدتهما، لأول مرة منذ 200 عام لا يوجد وريث ذكر، وأصبحت هي وريثة الحكم، لكنها أيضاً أصبحت وحيدة، وبالتدريج اختفت العائلة من حياتها، وكانت تستمد مثلها الأعلى من القصص والأساطير عن القديسات العظيمات، وقصص الحب والرومانسية من مجلس جدها ووالدها.
كانت إليانور طفلة قوية بشكل ملحوظ، وتتميز بالحيوية والصخب والعناد الشديد، وأخذت عن جدها بأن كانت تشع بصحة جيدة وذكاء، فضلاً عن الحماس للحياة المصحوب بقدر من التمرد وعدم الانضباط، الذي صعب عليها تحمل القيود والأعراف، وأدى لنفاد الصبر وسرعة الإصابة بالملل، بعكس فتيات جيلها، لم يكن الحياء من صفاتها، وبدا أن لديها موهبة في لفت الانتباه إلى نفسها، والرغبة في أن تكون دائماً مركز الاهتمام، ولأنها من النبلاء الأغنياء، لم يضيع أحد وقته في محاولة تعليمها عكس ذلك.
توفى جدها في 1127، وخلفه والد إليانور "ويليام العاشر"، الذي إلى حد ما أكمل مسيرة والده في حب الشعر والغناء، لكنه كان حاكماً ضعيفاً سريع الغضب، عاش في ظل أسطورة والده، بالرغم من ذلك تمكن من سحق أعدائه في أحد التمردات، ودخل في صراعات سياسية مع المقاطعات المجاورة، حتى توفي سريعاً في 1137 خلال رحلة حج، بعمر 38 فقط، خوفاً عليها من الطامعين، كانت وصيته الأخيرة أن يترك ابنته الأكبر ووريثته إليانور ذات الـ15 عاماً، في حماية ملك فرنسا "لويس السادس"، الذي لم يضيع وقتاً، وأرسل جنوده لإحضار الفتاة من منزلها بالقوة إن لزم، ما يزيد عن 500 من الفرسان والجنود، وخطبها لابنه لويس، الذي كان في الـ16، وأتم الزواج سريعاً، طامعاً هو الآخر في الحصول على مقاطعة "آكيتاين" أغنى مناطق العالم، والتي كانت تمثل ربع أو حتى نصف مساحة فرنسا الحالية.
لكن حسنة أبيها الأهم في تعليمها، خلافاً للمتعارف عليه في القرون الوسطى، اهتم بتعليم ابنته مبكراً، فجلب أفضل المعلمين، وتعلمت القراءة والكتابة والحساب في سن صغيرة، ودرست العلوم والأدب والفلك والتاريخ واللغات، وأتقنت ركوب الخيل ولعب الشطرنج، وأظهرت براعة عالية وذكاء واضحاً، في حين كانت نظيراتها يتعلمن طاعة أزواجهن والخياطة والغناء، كذلك أظهرت اهتماماً بالسياسة وطرق الحكم، حيث كانت العائلة تتبع الدوق في رحلاته، وكانت إليانور مولعة بمراقبة تعامل والدها مع النبلاء، في حين أن المقاطعة قد ضعفت سياسياً واقتصادياً في عهد والدها، كان لابد أن تعود إلى عظمتها مجدداً.
القديس الصغير
كان الزواج ينذر بالمشاكل قبل أن يتم، فالأمير الصغير كان في الأساس معداً للعمل في الكنيسة لا الزواج وتولي الحكم، فطبقاً للعادة بتلك الفترة، يتم تجهيز الابن الأكبر ليكون ولياً للعهد، والاهتمام بتعليمه لهذا الغرض فقط، أما الابن الثاني، فكان يقضي تعليمه مع الرهبان والقساوسة، ليتقلد منصباً مهماً في الكنيسة يساعد به شقيقه الملك، حتى توفي شقيقه الأكبر في 1131، وأصبح ولياً للعهد وتحولت حياته من الكنيسة لمجلس الملك، ولم يكن قد تمكن من تقبل الوضع أو الاستعداد له، فكان خجولاً صاحب أخلاق عالية وطبع هادئ، ما يراه البعض ضعفاً في الأمراء والملوك، وعند ذكر الزواج أمامه ومقابلة العروس تحمر وجنتاه وينظر إلى الأرض، فبعد أن نذر للتعفف، اُجبر على الزواج ومشاركة فراشه مع امرأة، ومن سوء حظه ليست أي امرأة، لكن أقوى امرأة في العالم.
لم تتوقف المشاكل عند هذا الحد، فسكان آكيتاين وباريس بينهم عداوة قديمة، كل منهما يرى الآخر أقل منه، وبالأخص آكيتاين الأغنى من مملكة فرنسا، حتى أن كلا الطرفين كان يتكلم فرنسية مختلفة، فكان واضحاً أن أيام إليانور كملكة على فرنسا لن تكون سهلة، ولن يتقبلها سكان باريس بسهولة، لكن الجميع تجاهل تلك المعضلات في وقتها، طمعاً في المصالح السياسية.
مع ذلك، كان لويس وسيماً صاحب عينين زرقاوين ثاقبتين، وشعر أصفر حريري، وطويل القامة، بالرغم من أنه لم يكن قوي البنية، ويختلف عن الشكل المعروف وقتها للرجولة، وكان يوصف أحياناً بأنه "جميل كفتاة"، في المقابل تشير كل المصادر إلى أن إليانور كانت آية في الجمال، لكن هؤلاء من وصفوها بالجمال لم يكلفوا أنفسهم أن يضعوا لها وصفاً، فحتى الآن وجهها وملامحها غير معروفة، ولا توجد رسمة مؤكدة تصورها رغم شهرتها وأهميتها، لكن يُعتقد أنها كانت أيضاً مثل لويس شقراء جميلة ذات عينين زرقاوين وجسد مميز، لم تكن تحب لويس، لكنه كان ما أرادت، أمير مهم ستجلس إلى العرش بجواره، وقد يمكنها السيطرة عليه أيضاً بسهولة.
خلال احتفالات الزواج، كانت إليانور وحاشيتها من الشعراء والمطربين، في الحفل بحماس وترف، وكانت تشرف بنفسها على التجهيزات والأغاني، وتستمتع بوقتها، بينما كان لويس ضائعاً من الصدمة الثقافية في حياته الجديدة، فلم تكن لديه أدنى فكرة عن الغناء والسهرات، ويُقال إنه جلس مثل حمل أو جرو صغير، يراقب الحفل في ذهول ورهبة، وبالطبع أيقنت أن التحدي الأول أمامها سيكون تحويل هذا الطفل المذعور إلى رجل، على الأقل إلى فارس يلبي طموحاتها، ويكفي حاجتها.
ملكة فرنسا
بعد الزواج بأسبوع تقريباً، توفي لويس السادس بسبب مضاعفات سمنته المفرطة، وجلس الزوجان الصغيران على عرش فرنسا، ودخلت إليانور أول معركة في حياتها الجديدة مع الملكة الأم، أم زوجها لويس التي أرادت فرض سيطرتها على ابنها الشاب، لكن إليانور تخلصت منها سريعاً، وواجهت سلطتها بقوة حتى غادرت القصر الملكي ورحلت، لتبدأ إليانور في تحويل القصر الكئيب إلى ساحة مرح تُسمع فيه أصوات الضحك والغناء طوال الوقت، حتى أنه ينسب لها تعليم فرنسا غسل اليدين قبل تقديم الطعام، بينما كان الملك يقضي أيامه في كنيسة "نوتردام" يتلو الصلوات ويساعد الرهبان، ويرتدى ملابس متواضعة لا يمكن أن يختارها ملك، ويأكل الخبز مع الماء فقط.
وتواصل سلوكه الزاهد في غرفة النوم أيضاً، حيث كان يقضي الليل على ركبتيه يصلي، حتى في البرد القارس، متجاهلاً أجمل امرأة في العالم على سريره، مما كان بديهياً بداية لمشاكل لن تنتهي.
لكنه كان بشكل أو بآخر مفتوناً بها، وبأسلوب حياتها المختلف، فكان يحاول دائماً إثارة إعجابها وكسب رضاها، فكان يحاول التغطية على خجله بالتطرف، أو اتخاذ قرارات متسرعة تخالف طبيعته، وسبيله في ذلك إثبات نفسه في الحرب، والظهور كفارس قوي وشجاع أمامها، فبعد أن تقلد الحكم بقليل، خرجت إحدى المقاطعات في تمرد بسبب الضرائب، فخرج بجيشه لأول مرة وأنهى التمرد، وحكم على الجميع بالإعدام، لكنه تراجع ثانية خشية أن يُعرف كطاغية، وقرر عمل الإصلاحات المطلوبة وتقليل الضرائب، تبع ذلك تمرد آخر في أراضي إليانور، فخرج الملك بالجيش من جديد وقضى على التمرد بسهولة بدون أي قتال، لكنه خشي أن غياب القتال سيظهر ضعفه أمام زوجته، فقرر أن يسلم نبلاء المدينة المتمردة أطفالهم كرهائن، متمنياً بذلك إبهار إليانور، لكنه تراجع مرة أخرى بعد تدخل مستشاريه، مما أثار حفيظة إليانور بسبب ضعفه، وطلبت منه أن يستمع لها بعد ذلك، ويتجاهل مساعديه عديمي الخبرة.
في القرن الـ12، لم تكن باريس مدينة الموضة أو الجمال، بالعكس كانت مركزاً للعلم والدراسة، وقصدها الطلاب من كل مكان في أوروبا، وقادت حملة النهضة الثقافية في أوروبا، وامتلكت الجامعة الوحيدة في أوروبا، حتى إنشاء "أكسفورد" في 1167، وخلافاً لبلدها آكيتاين، كانت تعم بالملل والازدحام المبالغ فيه، مع غياب الاحتفالات والصحبة المناسبة، لم تكن مفاجأة أن كرهت إليانور حياتها في باريس وشعرت بالضجر والملل، إلا من زيارات شقيقتها القليلة، خاصة مع زوجها الذي يعيش في عالم آخر، ولم يساعد كون المدينة مزدحمة وتعاني من سوء التنظيم والصرف الصحي، فبلا شك كانت السياسة وأمور الحكم مهربها، فكان الصدام المتوقع مع مستشاري الملك.
بعدها شجعته إليانور على احتلال مدينة "تولوز" المهمة، التي اعتبرتها حقاً لها من جدها، فوافق لويس بدون مشورة أحد، وأخذ على عاتقه التجهيز للحملة مع زوجته، لكن كلاهما افتقد الخبرة العسكرية والقدرة على قيادة وتجهيز جيش بمفرده، فكان فشل الحملة وانسحب الجيش بشكل مخز، مما لا يدع مجالاً للشك في أنه ملك ضعيف متردد، يفتقد أقل قدر من الحنكة والدهاء السياسي.
وظهرت بوضوح سيطرة إليانور على زوجها، واستماعه لمشورتها متجاهلاً مساعديه ومساعدي والده من قبله، مما زاد حنق النبلاء الفرنسيين عليها، وحاولوا أكثر من مرة التخلص منها، وبالفعل غابت عن اجتماعات الملك، لكنهم لم يتمكنوا من معرفة ما يحدث بين الزوجين في السر، وبالطبع كان الشاب الساذج البسيط يقع تحت سحر زوجته الجميلة، التي سبقته في النضوج بسنوات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.